تمرير

الرعاية الصحية في غرب الموصل: "لا أبطال في هذه القصة، وإنما ضحايا فقط."

11 يونيو 2017
آخر
شارك
طباعة:

عندما وصل أحمد* إلى مستشفى منظمة أطباء بلا حدود الميداني في جنوب مدينة الموصل العراقية، انهمرت دموع الكثيرين من عاملي المستشفى. فأحمد، الذي كان ممرضاً ماهراً، وزميلهم لسنوات طويلة، حيث اعتنى بالكثير من مرضى وجرحى غرب الموصل، هو المريض في هذه المرة، وكان بحاجة ماسة إلى الرعاية الصحية.

قبل يومين، علق أحمد وعائلته في منطقة اشتباك مسلح بينما كانوا هاربين من منزلهم في غرب الموصل. أصيب أحمد عدة مرات، كما اصيبت زوجته وأهله، ومات ابنه بين ذراعيه.

وقال، "بينما كنا نركض، استدرت فرأيت ابني يشهق، ورأيت أنه أصيب بعدد من الطلقات في ظهره وصدره وعرفت، بصفتي ممرضاً، أن ابني كان يحتضر. لم يكن هناك شيء باستطاعتي فِعله لأنقذه."

كان ابنا أحمد الكبيرين في المستشفى أيضاً، وكان صحيحين جسدياً، ولكنهما مصابان بشكل واضح بالصدمة. حيث كان يحدّق كلاهما بصمت في الفراغ.

جراحون مسجونون في المستشفيات

قبل يونيو/حزيران 2014، قال طاقم منظمة أطباء بلا حدود في العراق، إن مستشفيات الموصل وفرت أعلى مستويات الرعاية الصحية، وكان فيها ممرضون ماهرن ودكاترة وجراحون، وكانت لديها الأدوية والعدة المناسبة التي كان بإمكان الكل الاستفادة منها. ورغم أن الرعاية الصحية ظلت متاحة تحت سيطرة تنظيم الدولة الاسلاميّة، إلا أن جودة الخدمات بدأت بالانحدار.

وحسب شهادة الدكتور ياسر*، وهو جراح من الموصل انضم إلى فريق منظمة أطباء بلا حدود قبل شهرين، فإن الكثير من العاملين الطبيين قد قرروا البقاء في المدينة، بغض النظر عن المخاطر، لمساعدة سكان الموصل. موضحاً، "سُحبت كل اللوازم الطبية والأدوية من المستشفيات العامة لتزويد المستشفيات القليلة التي يسيطر عليها تنظيم الدولة الاسلاميّة ، وما عاد باستطاعة العيادات – إلا القلة القليلة منها – العمل نظراً لنقص الموارد. ولو أصيب شخصٌ ما بحالة طبية عسيرة، فإن عليهم إرسال طلب مغادرة من الموصل. وقد يُسمح لهم بالمغادرة، لكن قريباً لهم سيُحتجز كـضمان في حال لم يرجعوا."

بعد اندلاع حرب الموصل أكتوبر/تشرين الأول العام الماضي، أُجبر العديد من العاملين الصحيين في المناطق الواقعة تحت تنظيم الدولة الاسلاميّة على العيش في المستشفيات ليكونوا على استعداد دائم لمعالجة المقاتلين المصابين.

وقال الدكتور وسيم*، أحد أطباء منظمة أطباء بلا حدود، "الجراحون بالذات كانوا يسجنون ويُمنعون من مغادرة المستشفيات. وكانت الإصابات المدنية تُهمل وكان المقاتلون يُعطون الأولوية على الآخرين."

"أن تكون مريضاً في غرب الموصل فذلك أمر كارثي."

هناك الكثير من العاملين الطبيين الذين يتم احتجازهم من بين الـ 200 ألف مواطن آخرين محتجزين في غرب الموصل. ولكن مع ازدياد حدة الصراع، زادت نسبة الدمار الحاصل في المستشفيات بفعل الرصاص والانفجارات والغارات الجوية.

قال أحمد من سريره في المستشفى، "قليلة هي المستشفيات التي بقيت في غرب الموصل. في الأسبوعين الماضيين عملت في إحداها وكنت أنا لوحدي في جناحي. وكان لكل جناح عامل طبي واحد. في حين كان هناك ثمانية إلى 10 عاملين لكل جناح سابقاً."

خلال الصراع، عندما استُهدفت بعض المنشآت الصحية أو حوصرت في خطوط المواجهة الأمامية، اختبأ بعض العاملين الطبيين، وعالجوا الجرحى من داخل منازلهم في بعض الأحيان.

قال الدكتور وسيم، "كنا نعرف أن الحرب ستصلنا، وقد جهزنا أنفسنا لها منذ شهور. لقد كنت أجمع الأدوية واللوازم الطبية لفترة طويلة. كان هناك الكثير من الأطباء في الحي، وكان كل واحد منهم مسؤولاً عن شارع أو منطقة ما بعينها. لم تكن المعدات متطورة. كانت لدينا مسكنات ألم ومضادات حيوية، لكننا لم تكن لدينا أي معدات تنقذ الحياة كالأنابيب الصدرية، ولذلك كان علينا أن نرتجل. ذات مرة، بعد غارة جوية، وقع عمود من الاسمنت على ساق أحد المرضى العالقين تحت الركام، ولم يستطيعوا تحريكه، لذا كان على الجرّاح أن يقوم بعملية البتر بمساعدة المورفين لتسكين الآلام فقط. لكنه أنقذ حياته."

وقال أحمد، "أن تكون مريضاً في غرب الموصل فذلك أمر كارثي. فأغلب المرضى الذين كانوا بحاجة إلى العناية المركزة ماتوا، كما مات كثيرون آخرون لأنهم لم يستطيعوا الوصول إلى المستشفى في الوقت المناسب."

msf195908.jpg
مستشفى الخنساء الذي تم تدميره في معركة الموصل

"أنا طبيب وهذه مهمتي."

خلال معركة الموصل، أصبح الكثير من عاملي الصحة أنفسهم ضحايا عنفٍ، أو رأوا أقربائهم أو أصدقائهم أو زملائهم يُشوهون ويُقتلون. وقد قامت كونشيتا فيو، طبيبة نفسية تعمل لدى منظمة أطباء بلا حدود، بتنظيم جلسات فردية أو جماعية لتوفير الدعم النفسي لعاملي منظمة أطباء بلا حدود في العراق وتدريبهم على توفير الإسعافات الأولية النفسية.

قالت كونشيتا، "كل زملائنا العراقيين، من أطباء وغيرهم، هم بحاجة إلى دعم نفسي. بل إنهم يقولون أن ذلك هو أكثر ما يحتاجونه. وقد مر جميعهم بحوادث صادمة، ورأى العاملون الطبيون ألوان الرعب نتيجة هذا الصراع. وقد قاموا لعدة شهور، بل ولعدة سنين، بالمخاطرة بحياتهم لينقذوا حياة الآخرين. وبعد الغارات الجوية، كانوا هم وسائقو عربات الإسعاف أول من يعتني بالجرحى أو ينقب عنهم في الركام، وكانوا دائماً ما يخافون من إيجاد أحد أقربائهم أو جيرانهم أو أصدقائهم من بين الضحايا."

وقد تعرض الطاقم الطبي العامل في غرف الطوارئ في الموصل والمناطق المحيطة بها لأمور مروّعة بسبب الصراع، التي عادة ما كانت أو تكون قريبة من منازلهم. ولا يزال لدى الكثيرين من طاقم منظمة أطباء بلا حدود عائلات حبيسة في مناطق بغرب الموصل، تحت سيطرة تنظيم الدولة الاسلاميّة. ولم يسمع هؤلاء خبراً منهم لأسابيع أو أشهر حتى الآن.

قال الدكتور وسيم، "إن أول سؤال نطرحه على الجرحى الذين نتلقاهم هو: "من أين أنت؟" ذلك لأن كل مناطق غرب الموصل هي مناطقنا – عائلاتنا تعيش هناك. إن كابوسي الأسوأ هو أن أتلقى أفراداً من عائلتي في غرفة الإسعافات. أحياناً نفقد مهنيتنا بسبب اندماجنا العاطفي. فنحن لسنا حجارة."

رغم المصاعب المهولة وحزن الحياة اليومية داخل الموصل ومحيطها، إلا أن قدرة العاملين الصحيين في الموصل على التحمل مذهلة وملهمة.

قالت كونشيتا، "إن انتظار الأخبار وتوقع أسوأها أمر منهكٌ عاطفياً ونفسياً، لكن العمل في مستشفيات منظمة أطباء بلا حدود هو بحد ذاته نوع من المعافاة بالنسبة للكثيرين منا: فهو يعني أننا نقدم مساعدة فعلية للعالقين على الجهة الأخرى."

عندما سُئل الدكتور وسيم عمّا إذا كان يرى في عمله في الموصل شيئاً بطولياً قال، "لا يوجد أبطال في هذه القصة، وإنما ضحايا فقط. لم يكن لدينا أي خيار. أحياناً كنت أخاف على حياتي عندما أخرج لجمع الجرحى. لكنني كنت أجلس وأفكر، "إذا لم أذهب، فإن هذا الرجل سيموت، وسيكون ذلك ذنبي لأنني لم أساعده. أنا طبيب وهذه وظيفتي.""


تستمر فرق منظمة أطباء بلا حدود بتوفير الرعاية الطارئة والجراحة المنقذة للحياة للرجال والنساء والأطفال الجرحى في حرب الموصل التي لا تزال مستمرة حتى هذه اللحظة. كما تحاول الفرق توسعة نطاق عملها لملئ فراغات الرعاية الصحية التي يتسبب بها دمار الخدمات الصحية المحلية. تعمل فرق منظمة أطباء بلا حدود حالياً في ستة منشآت طبية داخل الموصل وحولها. كما توفر الدعم للأطفال المصابين بنقص التغذية، بالإضافة إلى الرعاية الصحية الأساسية والنفسية في المخيمات التي أقيمت مؤخراً للهاربين من الموصل.

* تم تغيير الأسماء