تمرير

جمهورية إفريقيا الوسطى: السباحة ضد تيار أمراض الأطفال

18 يونيو 2017
قصة
الدول ذات الصلة
جمهورية إفريقيا الوسطى
شارك
طباعة:

"وصلت إلى بريا في بداية فبراير/شباط، وعندما لامست الطائرة الصغيرة المدرج الترابي الأحمر، شعرت كأني أهبط على سطح المريخ. فكل شيء هناك غريب عني: شكل المكان واللغة والثقافة والمناخ وطريقة الحياة. واصلت الطائرة انزلاقها حتى توقفت، نظرت من النافذة إلى مشهد الأرض الجرداء التي ستكون موطناً لي للأشهر الستة القادمة.

الجو هنا شديد الحرارة. وحالما نزلت من الطائرة بدأت جفوني تتعرق لدرجة أنني كدت لا أرى شيئاً. أما لسعات البعوض فقد غطت كامل الجزء المكشوف من بشرتي. كان الجميع يخاطبني بالفرنسية، وفجأة تذكرت عبارة بالفرنسية كنت قد تعلمتها وهي كيفية طلب شطيرة "الكروك موسيو"، وهو أمر يستحيل توفره هنا. فالجبن وخبز التوست كانا أبعد ما يمكن أن يكونا عني في حياتي.

بلدة بريا موطن لنحو 45 ألف إنسان، إضافة إلى بضعة آلاف آخرين يقطنون مخيمات اللجوء، نزحوا من بيوتهم بسبب المعارك الدائرة بالقرب منهم بين الفصائل المسلحة. أما الطرقات فهي عبارة عن مسارات ممهدة على التربة الحمراء وعلى جانبيها أكواخ مصنوعة من الطوب المصنوع من الطين. يطهو الناس طعامهم على مواقد مفتوحة، حيث يجمعون النفايات ويضرمون بها النار على جانب الطريق، أما الماء فيحصلون عليه من الآبار بالمضخات، والكهرباء تأتيهم من مولدات تعمل بالوقود الذي يتم نقله بالشاحنات، وبين حين وآخر تعترض العصابات تلك الشاحنات وتبقى البلدة في الظلام. تشكل أشجار المانجو الضخمة ظلاً وارفاً يحمي البلدة من أشعة الشمس الحارقة، ويرتدي الناس ملابس بألوان زاهية، ويحملون على رؤوسهم أحمالاً كبيرة بتوازن عجيب.

msf159360_medium.jpg

تكاد مظاهر البنية التحتية تنعدم عن الوجود هنا. فالرعاية الصحية في المناطق الريفية مثل بريا غير موجودة تقريباً، عدا ما تقدمه أطباء بلا حدود وبضعة منظمات أخرى غير حكومية. يوجد مستشفى واحد فقط، أما خدمات طب الأطفال فتقدمها أطباء بلا حدود وحدها. أعمل كطبيبة أطفال مع أربعة أطباء أطفال آخرين، ومهمتنا هي أن ندير قسم الطوارئ ووحدة العناية المركزة (وهي عبارة عن خيمة) ووحدة حديثي الولادة وجناح الاستشفاء الداخلي (وهو خيمة أخرى) – ويبلغ إجمالي عدد الأسرَّة نحو 40 سريراً

. أما عيادتنا الخارجية التي يديرها الممرضون فتستقبل يومياً ما بين 100 إلى 150 طفلاً، وقسم الحالات الطارئة يستقبل ما بين 20 إلى 40 حالة طارئة كل يوم، وأي مولود حديث يولد في جناح الأمومة ويعاني من مرض ما يأتي إلى قسم حديثي الولادة خاصتنا.

كنت أظن أني بسنوات عملي الثمانية قد شاهدت عدداً كافياً من الأطفال المرضى، ثم تبين لي أني لم أكن رأيت شيئاً قبل مجيئي إلى هنا. جمهورية إفريقيا الوسطى هي واحدة من أفقر الدول في العالم وأقل الدول من حيث توفر الغذاء، إذ فيها أحد أعلى معدلات وفيات الأطفال.

غالبية الأطفال الذين يأتون إلى قسم الطوارئ الذي أعمل فيه هم في حالة أسوء بكثير من أي طفل رأيته في حياتي في الغرب، ولديهم أمراض لم أسمع عنها إلا في الكتب. جميع الأمراض والحالات تكون في أشد درجاتها: التهاب السحايا، التهاب الرئة، الملاريا، التهاب اللفافة الناخر، السعال الديكي، الحروق، الجفاف، وفقر الدم.

الكثير من الأطفال يعانون من سوء التغذية وضعف الجسم، حتى قبل أن يمرضوا، وكثيرون يعيشون بعيداً جداً في مخيمات للنازحين حيث تزورهم عيادات متنقلة بين حين وآخر، لذلك يكونون دائماً بصحة متدهورة عندما يأتون إلينا. إحدى الأمهات عمرها 19 عاماً، اضطرت لقيادة الدراجة الهوائية لمسافة 100 كيلومتر لتحضر طفلها ذي الثلاثة أسابيع إلينا.

msf159361_medium.jpg

إنه بلد جميل، لكنه مكان لا يرحم الأطفال، مع وجود الكزاز والتهاب الرئة والسل والجوع والإسهال والملاريا، وجميعها يمكن أن تصيب الأطفال. يبقى الأطفال على قيد الحياة من خلال قدرتهم على التأقلم والروح المعنوية العالية التي لديهم، ومقابل كل وفاة هناك عشرات الذين يتغلبون على المرض لم أكن لأتصور أنهم سيتعافون.

في الأسبوع الماضي عالجت طفلة عمرها سنتان من ملاريا دماغية حادة والتهاب السحايا. عندما جيء بها كانت فاقدة للوعي وملفوفة في قطع من القماش. كانت تبدو في وضع مريع: شاخصة الوجه ولديها جفاف وحرارة تزيد عن الأربعين درجة، وتصيبها تشنجات منذ الصباح. في الدول الغربية إن جاءت حالة كهذه يتم إعطاؤها التنفس الاصطناعي. قدمنا لها كل العلاج الممكن. في اليوم التالي، تماسكتُ أعصابي استعداداً لرؤية سريرها فارغاً، لكن ذلك لم يحدث: فقد كانت هناك معتدلة في جلستها على السرير وتحمل في يدها صفَّارة بلاستيكية.

عندما رأتني ابتسمت ابتسامة عريضة ونفخت في صفارتها نحوي. كان ذلك كل ما احتجت أن أراه – هذه الطفلة القوية بشكل لا يصدق، علمتني أن وجودي هنا ومحاولة السباحة عكس تيار أمراض الأطفال الجارف، لم يكن دون فائدة ولم يكن دون جدوى".