تمرير

رحلتي نحو أن أصبح من أوائل المدراء الطبيين من الأفارقة في أطباء بلا حدود

3 مايو 2021
تدوينة
شارك
طباعة:

"لا يمكنني الادعاء أني غير مدرك أني سأكون من أوائل الأفارقة الذين بدأوا كموظفين محليين لأتولى منصب المدير الطبي لأطباء بلا حدود. فهذا بحد ذاته علامة تقدُّم، لكنه في الوقت ذاته علامة على المدى الذي مازلنا نحتاج أن نذهب إليه".

أما من كان له الأثر الأكبر على سِنِيِّ حياتي الأولى فقد كان والدي الذي توفي عندما كنت في الثامنة عشرة.

كان إيمانه بي أكبر من إيماني بنفسي ولم يكن يسمح لي بأن أرضى من الأمور بأقل من أفضلها. كان يدعمني بالكامل في نيتي وسعيي لأن أصبح طبيباً. كانت طريقي إلى دراسة الطب مكلفة، لكن أبي قال لي: "إذا كنت ترغب بالطب، سنجد بعض المال لذلك وسأساعدك على تحقيق ذلك".

"أردت أن أساعد الناس"

في ذلك الحين في ملاوي، لم يكن هناك الكثير من المهن التي يمكنك من خلالها صنع فارق وكسب ما يكفي لحياة كريمة – لذلك اخترت الطب. وكنت بالتحديد أريد مساعدة الناس المصابين بالإيدز.

كان للإيدز أثر كبير على جنوب القارة الإفريقية في أواخر التسعينيات وبداية العقد الأول من القرن الحالي. لم يكن هنالك بعد علاج للمرض وكان العمر المتوقع للناس في ملاوي 45 عاماً فقط. وكنت أعرف الكثير من الناس من سني كان والداهم قد ماتوا بفعل المرض.

في عام 1998 بدأت الدراسة في كلية الطب في بلانتاير. كنا 14 طالباً في تلك السنة.

بعدها بخمسة أعوام من العمل الشاق، تخرجت. أذكر ذلك الشعور وهو مزيج من الراحة والحماس والفخر – كانت لحظة رائعة بحق.

كان علينا جميعاً أن نجري فترة تدريب داخلي في مستشفى ملاوي المركزي في بلانتاير، مع التناوب على جميع أقسام المستشفى.

كنا نعمل على مدار الساعة، وأحياناً كنا نعمل 72 ساعة متواصلة، بينما كنا نحصل على لا شيء تقريباً. لم يكن عندي الكثير من الأنشطة الحياتية خارج المستشفى، لكن عندما أنظر للوراء الآن أستطيع أن أرى أني تعلمت الكثير في هذه الأشهر عندما كنت أبذل أقصى ما عندي.

جنة الطبيب

خلال الأشهر الأخيرة من فترة تدريبي الداخلي سمعت بأطباء بلا حدود لأول مرة. كانت المنظمة تدير مشروعاً لعلاج الإيدز في مكان قريب في شيرادزولو وكانوا بحاجة لشخص ينوب عن أحد أطبائهم.

لم أكن حينها أعرف عن أطباء با حدود إلا القليل، لذلك ظننت أني سأعمل معهم لبضعة أسابيع أكسب خلالها بعض المال. لكن عندما ذهبت رأيت أن العمل هناك أشبه بجنة للطبيب.

في المستشفى المركزي بملاوي تعلم أن 90 في المئة من المرضى هم مرضى إيدز، وأنك ستعالجهم من أي اعتلال شديد يصيبهم، وأنهم بعد بضعة أشهر سيعودون وربما لن يرجعوا بعدها إلى ديارهم.

مع أطباء بلا حدود في شيرادزولو كان لدي كل الأدوية التي أحتاجها وكان بإمكاني أن أصف مضادات الفيروسات القهقرية، والتي كانت في ذلك الوقت متاحة فقط في القطاع الخاص وتكلف الكثير من المال. لكن هنا في هذا المركز الصحي الريفي كان بإمكاني وصفها بسهولة. كان عندي كل ما أحتاجه لتدبير حالة المرضى.

كان عندي أيضاً فريق جيد حقاً. كنا نناقش معاً ما نراه وما يمكن تحسينه. كانوا مهتمين جداً بما أقوله، وتبين لي أني كنت أول طبيب مالاوي يعمل مع أطباء بلا حدود.

بعد أن أكملت فترة تدريبي الداخلي حصلت على عمل مع أطباء بلا حدود. وعلى مدى العامين ونصف العام التاليين عالجت مئات المرضى وقدمت آلاف الاستشارات الطبية في شيرادزولو.

في الوقت ذاته، كنت أشغل مناصب مختلفة ضمن المنظمة: كطبيب، وقائد للفريق الطبي ونائب المنسق الطبي.

شعرت أنني كنت مستعداً لأصبح منسقاً طبياً لكني أُبلغت بشكل مباشر من قبل المنظمة أنه لا يمكنني أن أشغل هذا المنصب في ملاوي نظراً للقواعد العديدة التي تحكم عمل الطواقم المحلية والدولية. ومازال الكثير من الناس في أطباء بلا حدود يواجهون هذه الحواجز الهيكلية التي تعيق تقدمهم. خياري الوحيد هو أن أقوم بذلك العمل في مكان آخر.

اضطررت لمغادرة ملاوي، ورغم أن ذلك لم يكن في حسباني.

على الطريق

msf295945.jpg

كانت نيجيريا (في الجهة المقابلة من القارة) تشكل لي تغييراً كبيراً. فالثقافة في غرب إفريقيا منفتحة جداً – على خلاف الثقافة السائدة في ملاوي والتي تتسم بالاسترخاء.

كنت مدير مستشفى لعلاج الإصابات في بورت هاركورت. كانت وتيرة العمل سريعة وعليك أن تتخذ القرارات بسرعة وتعرف متى عليك أن تتمسك بموقفك.

كان علي أن أتعلم كيف أضع قدمي على الأرض وأقول: "هذه هي الطريقة التي سنتبعها للقيام بالأمر".

كانت عندنا الفرصة لتوسيع حدود المألوف فيما يخص جراحة التثبيت الداخلي ضمن أطباء بلا حدود.

كان المستشفى يمتلئ بالمرضى، لذلك كان علينا أن نجد طريقة لعلاج المرضى وإعادتهم إلى بيوتهم بشكل آمن. كان الناس يعتقدون أنه لا يمكنك القيام بجراحة تثبيت داخلي في هذا الظرف، لكننا قلنا أنه ليس أمامنا خيار وأثبتنا أن الأمر كان ممكناً.

بعدها ذهبت مع أطباء بلا حدود إلى تشاد. وكانت هنالك مشاكل أمنية كبيرة. وقعت معنا حادثة مزعجة – إذ تعرضنا لهجوم في أحد المخيمات – وكانت حادثة صادمة فقررت أن أغادر، وذهبت إلى جمهورية إفريقيا الوسطى لإنشاء برنامج لعلاج السل والإيدز.

الانفراجة

بعد جمهورية إفريقيا الوسطى، تزوجت واعتبرت أن ذلك الجزء من حياتي مع أطباء بلا حدود قد بلغ نهايته.

زوجتي (التي كانت تسبقني بسنة في كلية الطب) كانت تجري تخصصها في طب الأطفال في المملكة المتحدة، فذهبت إلى هناك. كنت سعيداً بأني كنت مع زوجتي. وفكرت أن أتلقى بعض التدريب في المملكة المتحدة ثم ربما أعمل في هيئة الخدمات الصحية الوطنية.

لكني حينها سمعت أن هناك شاغراً لدى وحدة مانسون التابعة لأطباء بلا حدود المملكة المتحدة يخص علاج السل. كان عملاً مثيراً للاهتمام ويشكل نقلة جيدة لي: كنا نقضي من أربعة إلى ستة أسابيع متواصلة في مشاريع أطباء بلا حدود في آسيا الوسطى وأوروبا الشرقية حيث كانت مشكلة السل المقاوم للأدوية المتعددة تزداد هناك.

من خلال تلك الزيارات رأينا تحديات علاج مرضى السل المقاوم للأدوية المتعددة لأن الأدوية الوحيدة المتوفرة كانت شديدة السُّمية وآثارها الجانبية خطيرة. أدى هذا إلى مشروع (TB-PRACTECAL ) – وهي تجربة سريرية متعددة البلدان على أنظمة علاجية جديدة تكون أقصر وأكثر فاعلية لعلاج أشكال السل المقاومة للأدوية.

كنت مدير المشروع وبعدها أصبحت رئيس الباحثين في التجربة. أنا فخور جداً بالتقدم الذي أحرزناه والرعاية التي نقدمها للمرضى في التجربة: عالجنا أكثر من 500 مريض مصاب بالسل المقاوم للأدوية المتعددة وكانت النتائج جيدة حقاً.

منذ انتقالي إلى لندن قبل اثنتي عشرة سنة، حصلت على ماجستير في الصحة العامة، وأحضّر حالياً للدكتوراه في مدرسة لندن لحفظ الصحة وطب المناطق الحارة، وأنا محاضر زائر في معهد كلية لندن الجامعية للصحة العالمية.

أستمتع فعلاً بمحاولة المزج بين قوة التفكير والتأمل الأكاديمي وبين براغماتية أطباء بلا حدود.

علامة تقدم

msf295973.jpg

بعد كل سنوات عملي مع أطباء بلا حدود مازلت أشعر بالحماس المرتبط بتلك السنوات – الصداقات والاحترام، والتركيز، والقدرة على الدفع باتجاه ما هو أصلح لمرضانا – وآمل أن آخذ هذا الحماس معي إلى منصبي الجديد كمدير طبي لأطباء بلا حدود.

يسرني ويشرفني أن أطباء بلا حدود قد عَهِدَت بمنصب مهم كهذا لي.

لا يمكنني الادعاء أني غير مدرك أني سأكون من أوائل الأفارقة الذين بدأوا كموظفين محليين لأتولى منصب المدير الطبي لأطباء بلا حدود. فهذا بحد ذاته علامة تقدُّم، لكنه في الوقت ذاته علامة على المدى الذي مازلنا نحتاج أن نذهب إليه.

في أطباء بلا حدود الكثير من الموظفين المحليين الذين استثمروا في أطباء بلا حدود – وكان يمكن أن يقوموا بهذا قبلي بزمن. لكنني متفائل حيال الزخم الحالي ضمن أطباء بلا حدود لتثمين وتعزيز إمكانيات طاقمنا بغض النظر عن أصلهم الجغرافي، وآمل أن أضيف إلى ذلك الزخم وإلى تنفيذه.

وقبل كل شيء أتطلع قدماً لأن أكون مفيداً بحق. ورغم أن عمل المدير الطبي يبتعد بضعة خطوات عن الأنشطة اليومية في مشاريع أطباء بلا حدود، فما يحفزني هو حقيقة أن أياً كان ما أقوم به سيكون له أثر إيجابي على المرضى الذين نخدمهم وأنا عازم على فعل هذا بكل ما أوتيت من قوة.

ولدت في ليلونغوي بملاوي، وكنت السادس بين سبعة أطفال. كان جدي طبيباً وأختي الأكبر كانت ممرضة، لكن عندما كبرت كانت رغبتي تتركز في أن أصبح لاعب كرة سلة محترف.

فيما مضى، في ثمانينيات القرن الماضي كانت ملاوي تحت الحكم الديكتاتوري للرئيس هاستينغز كاموزو باندا. وكان هو قد أنشأ المدرسة الداخلية التي درست فيها (أكاديمية كاموزو). كان هدفه أن يختار شخصين أو ثلاثة أشخاص من كل منطقة ليصنع منهم قادة مستقبليين لملاوي. كانت المدرسة صارمة جداً من عدة نواحٍ لكن كان فيها خصلة إيجابية أنها كانت تدفعك لبذل أقصى ما عندك.

كان عندي مدرّس ملهِم جداً، رجل بريطاني اسمه السيد هاروود وكان يدرسنا مادة الأحياء. كنت أحافظ على تركيزي في حصته كما ساعدني حماسه على فهم بعض الجوانب المعقدة ليس فقط في الدراسة بل في الحياة أيضاً.