تمرير

شهادات حية من وسط البحر المتوسط: طبيبة من فريق عمل أطباء بلا حدود

14 مايو 2017
آخر
شارك
طباعة:

الدكتورة إرنا راينييرسه، طبيبة على متن سفينة البحث والإنقاذ أكواريوس التي تديرها منظمة أطباء بلا حدود بالشراكة مع منظمة إس أو إس ميديتيراني.

تلقينا يوم الأربعاء اتصالاً من مركز تنسيق عمليات الإنقاذ البحري حيث أخبرونا بوجود مروحية تقوم بعملية الإجلاء الطبي وأنّهم بحاجة إلى المساعدة في عمليات الإنقاذ. ولم نكن نعرف في ذلك الوقت أنّ إحدى سفن القوات البحرية قد أنقذت حوالي 48 شخصاً من قارب مطاطي، كما اكتشفنا الكثير من الأمور لاحقاً.

كان ينتابني شعور سيء شاركني فيه فرد آخر من الفريق وتبين لاحقاً أنّه كان صحيحاً.

عندما اقتربنا من القارب، كان الصمت هو أوّل ما لاحظناه، فعادةً ما يصرخ الناس ويلوحون عندما نقترب منهم، ولكنّ الصمت هذه المرّة كان مخيفاً. أما الأمر الآخر الذي استرعى انتباهنا فوراً فهو رائحة الوقود القويّة.

عندما اقتربنا أكثر، أخبرونا بأنّ القارب يحتوي على جثث غارقة ولكننا لم نعرف العدد بالتحديد.

لاحظنا بعدها أنّ الركاب لا يرتدون ستر النجاة، فقمنا بتوزيعها على الفور، ولم نكن نعرف حتّى تلك اللحظة عدد الجثث على القارب.

طلبت الإذن لصعود القارب وكان الماء يغمرني حتّى منتصف ساقي، أما رائحة الوقود الممزوجة بروائح البول وغيرها فلم تكن تُحتمل، وكان من الصعب عليّ تفادي المشي فوق الجثث الميتة، ولكنني أردّت التأكد من وجود أيّ فرصة لإنعاش تلك النساء، حيث كانت غالبية الغارقين من النساء وكان ذلك واضحاً لي حينها.

أجريت تقييماً سريعاً للوضع للتأكّد من أن النساء كن ميتات فعلاً، وكانت بعض الجثث متيبّسة بالكامل بعد أن بلغت المرحلة الثالثة من الموت. وكان من الواضح أنّه قد مرّ وقت غير قصير على موتهن، واستطعت من خلال النظر في أعينهن رؤية ما شعرن به من معاناة قبل الموت.

كان من الواضح بالنسبة لي كطبيبة أن الأمر قد انتهى ولا يمكننا القيام بشيء، لذلك عدت إلى سفينة الإنقاذ للتركيز على مساعدة الأشخاص الذين نجوا من تلك المحنة، والذين عانى أغلبهم من ألم في العينين بسبب الوقود المتسرّب، وسرعان ما تبيّن لنا حجم الصراع الذي دار على القارب للبقاء في مكان آمن، حيث رأينا آثار الأظافر على أذرع الناجين وأرجلهم، وكان عشرة منهم قد تعرّضوا للعضّ في أذرعهم، وأحدهم في ظهره، وكذلك في أسفل الظهر والكاحلين وهو ما يعني أنّ شخصاً ما كان ممدّداً على أرضية المركب وفوقه أشخاص آخرون وهو غير قادر على فعل أي شيء. إنّ مجرّد تخيل هذا المشهد يثير الرعب، وهو يدّل على مدى فداحة الوضع، فعيونهم كانت شاخصة تحدّق في الفراغ.

أصيب الناس بأذىً نفسي شديد بسبب ما عانوه، ولا يقتصر الأمر على الرحلة التي قطعوها في الصحراء، أو الوقت المرعب الذي قضوه في ليبيا، ولكنّ ما عانوه على متن القارب كان أمراً يفوق خيال معظم الناس. قمنا لاحقاً بإخراج الجثث وهو عملٌ لم يكن سهلاً أبداً. وما نقوم به عادة هو أن نلتقط صوراً فردية لكلّ ضحية، ونسجّل أعمارهم التقديرية وغيرها من التفاصيل لنقوم بتسليمها للسلطات الإيطالية، ولكنّ المؤسف في الأمر أنّ جثة واحدة فقط لامرأة تم التعرف عليها من قبل زوجها، إذ ينبغي تسليم الجثث إلى أسر المتوفين أو التواصل معهم.

لقد مات هؤلاء الأشخاص بعد عذاب مرير، وهو أمرٌ بدا واضحاً على وجوههم. وكان بعضهم يعاني من انتفاخ اللوزتين نتيجة الاختناق، ومن الصعب أيضاً على الأشخاص التعرّف على جثث أحبائهم وهم في تلك الحالة.

وكما قلت، فقد استطاع أحد الناجين التعرّف على جثّة زوجته التي ماتت في الحادث، وهناك شخص آخر كان مسافراً مع أحد أقاربه، ولكنّه لم يتمكّن من التعرّف على الجثّة بسبب تورّم الوجوه، وهو قادمٌ من بلدٍ لا توجد فيه سجلات خاصة ببيانات الأسنان أو الحمض النووي أو أي طريقة أخرى للتعرّف على الجثث. ولكن المعلومات التي حصلنا عليها هي أنّ الفتيات اللاتي غرقن جئن من نيجيريا وتعرّفن على بعضهن خلال الرحلة، وسمعنا قصصاً من الناجين عن غرقهن في قعر القارب بين الأرضية الخشبية والسطح المطاطي بعد اختناقهن بالماء الملوث بالوقود.

معظم هؤلاء الفتيات جئن بعد أن قضين بعض الوقت في مركز الاعتقال، أي أنهن كن في حالة إنهاك،
إذ لم يكن يحصلن على ما يكفيهن من الطعام أو الشراب، فكيف لهن أن يصمدن إن كانوا أصلاً في حال بدني متردٍ. كان الوضع مريعاً بالنسبة لهنّ.

ما نريده الآن هو التركيز على الناجين ورعايتهم، وقد قمنا بدعوة فريق نفسي-اجتماعي متخصّص في هذه الحالات من منظمة أطباء بلا حدود في إيطاليا للعمل على الشواطئ، وسنلتقي بهم غداً في تراباني، حيث سنقوم بتسليم الجثث إلى السلطات الإيطالية.

ولكن الجانب القاسي والمثير للاشمئزاز في هذا المسالة هو أنّ الفتيات فقدهن حياتهن بطريقة رهيبة، والسبب الوحيد وراء ذلك هو عدم وجود طريق آخر أمامهن للوصول إلى أوروبا، وهذا بالنسبة لي موقّف مروّع ومن الصعب التعامل معه. ورغم صعوبة النظر إلى وجه شخصٍ ميّت، إلا أن الصعوبة الأكبر هي محاولة التعرّف على جثّة فارقت الحياة، ولن تعرف تاريخها أو من يفكر فيها الآن. وبسبب عدم وجود طريقة للتعرّف على هويتها فهذا يجعل من الأمر شخصياً أكثر بالنسبة لي.

كنت أشعر بالحنق الشديد أمس بسبب السياسات التي تزيد صعوبة كلّ الأمور، إذ كان باستطاعة هؤلاء الفتيات شراء تذكرة طيران والسفر بطريقة مريحة وبتكلفة لا تتجاوز نصف الثمن الذي دفعنه في هذه الرحلة المهلكة، ولم يكن عليهن قطع الصحراء أو التعرّض للاغتصاب أو غيره من المآسي التي اختبرنها. لقد اضطرّت هؤلاء الفتيات إلى ركوب قارب غير مجهّز في منتصف الليل والغرق في البحر لعدم وجود أيّ سبيلٍ آخر، كما أنّ تعاقب الأحداث بالكامل يزيدني غضباً. وفي الوقت نفسه، أشعر بالحزن العميق لأن الجرم الوحيد الذي ارتكبه هؤلاء الناس هو عبور البحر، ولم يكونوا مختلِّين، بل كانوا أشخاصاً طبيعيين وكانت تنتظرهم حياة حافلة بالأحداث.