تمرير

في شمال اليمن، الموت في الخفاء

6 يونيو 2017
آخر
الدول ذات الصلة
اليمن
شارك
طباعة:

حيدان قرية نائية تجثم بين جبلين... ضاعت بين صفحات الزمن. بعض المنازل فيها تشبه قلاع العصور الوسطى... ومن فتحات الرماح، تظهر حيناً وجوه غريبة.

وفي الطريق المؤدية إلى القرية، والتي تتناوب بين الطريق المرصوف بالحصى وبين المسار الترابي، يخيل للمرء أن تلك الطريق ستفضي به إلى مكان للتأمل تندر فيه الاتصالات الهاتفية، أما الإنترنت فتبقى مجرد فكرة نظرية. إلا أن أصوات الطائرات المقاتلة السعودية التي تحلق فوق القرية، ناهيك عن المباني التي شوهتها الصواريخ، تذكرنا بأننا في بلد يعيش حرباً، وأن خط المواجهة يبعد فقط 20 كيلومتراً.

msf193179.jpg

خلال صيف عام 2016، أجبرت الغارات العنيفة على محافظة صعدة طاقم منظمة أطباء بلا حدود علی الانسحاب من حیدان، وعلى إثرها لم يعد بإمكان المستشفى تقديم الكثير من الخدمات. كان للهجوم عواقب مأساوية على المنظمة إذ أسفر الهجوم على مشفى عبس في 15 أغسطس (آب) عن مقتل (19) شخصاً وجرح (24) آخرين. وفي الأيام التي أعقبت ذلك، اضطرت طواقم منظمة أطباء بلا حدود العاملة في عدة مستشفيات أخرى في المنطقة إلى الانسحاب تاركين المرضى دون أطباء.

شكل رحيل طواقم منظمة أطباء بلا حدود صدمة لسكان هذه المنطقة الريفية الفقيرة حيث يقع أقرب مستشفى آخر في مدينة صعدة على بعد ساعة ونصف براً. لا يستطيع العديد من المرضى الذين يحتاجون إلى رعاية طارئة أو رعاية أمومة أو رعاية أطفال تحمل تكاليف الرحلة أو الدواء الذي يحتاجونه، كما أنهم يواجهون وضعاً مأساوياً، ويذكر أحد قادة المجتمع: "هنا يموت الناس بصمت وفي الخفاء، إذ لا يمكنهم التنقل. يواجه هذا الوضع عشرات الأشخاص ومعظمهم من النساء والأطفال".

بعد ستة أشهر من انسحاب منظمة أطباء بلا حدود، يعود إلى حيدان طاقم دائم يتألف من ثلاثة موظفين دوليين، وهم طبيب وممرض ومنسق يعملون جنباً إلى جنب مع طاقم يتراوح عدد أفراده بين 15-20 موظفاً يمنياً. وفي 19 فبراير (شباط)، أعادوا رسمياً إطلاق أنشطة أطباء بلا حدود الطبية في تلك المنطقة، وتشمل هذه الأنشطة الرعاية الطارئة والأمومة ورعاية الأطفال، وعلى الفور، انتشر خبر عودة طاقم منظمة أطباء بلا حدود، وبهذا بدأ المرضى بالتوافد وبأعداد متزايدة.

إنها الثامنة صباحاً من يوم 4 أبريل (نيسان)، وهناك (20) شخصاً ينتظرون في خيمة كبيرة أقيمت بالقرب من مدخل مبنى المستشفى، حيث يقوم موظفان بتسجيل المرضى وفرزهم، وترميزهم بالشرائط الملونة حسب خطورة الحالة، فاللون الأخضر للحالات الأقل خطورة واللون الأحمر للحالات الخطيرة.

ينتقل الدكتور روبرتو سكايني، رئيس الطاقم الطبي، من مريض إلى آخر بسرعة، ويقول: "أتأكد من إرسال جميع المرضى إلى القسم المناسب، كما أنني آخذ فكرة عن حجم العمل بهدف تنظيمه على النحو المناسب، فالوضع يختلف من يوم لآخر."

يتم إحضار طفلين صغيرين مصابين بالحصبة إلى غرفة الطوارئ حيث يقوم الطاقم الطبي بفحص كل مريض تحت إشراف الدكتور سكايني، أو "روبي" الاسم المحبب لأفراد الطاقم.

بعد بضع دقائق، تصل فتاة صغيرة تظهر الحروق على وجهها وإحدى قدميها بسبب سقوطها في النار مساء اليوم السابق. جلبها والدها إلى المستشفى أثناء الليل لتتلقى الإسعافات الأولية، أما الآن فقد حان الوقت لأن تقوم الممرضة بتغيير الضماد.

msf193176.jpg

يدخل المرضى تباعاً إلى غرفة الطوارئ الصغيرة التي تعج بالمرضى على الدوام. وإلى جانب الفتاة الصغيرة التي تعاني من الحروق، يجلس على المقعد صبي مصاب بسوء التغذية بالإضافة إلى الالتهاب الرئوي، إذ يعتري القلق والديه اللذين يرقبان الطاقم الطبي وتنقلاته السريعة حول ذلك الطفل الذي بدأ بالعويل.

يجلس معظم المرضى وأقاربهم على المقاعد ويسندون ظهورهم إلى الجدار، وذلك أثناء انتظار دورهم بهدوء. يأتي بعض المرضى من حيدان بينما يأتي البعض الآخر من القرى النائية التي تختفي بين الجبال. تُعد هذه الأسر، وعلى وجه التحديد تلك التي تعيش بعيداً عن المستشفى، من الفئات الأكثر ضعفاً، فهم ضحايا الحرب المغيبون الذين يموتون بعيداً عن الجبهات.

يقول الدكتور سكايني: "يعيش العديد من هؤلاء الأشخاص على بعد كيلومترات من أقرب مركز صحي، ولا يملك معظمهم أي عربة، كما لا يمكنهم تحمل نفقات سيارة الأجرة. لذلك ينتظرون حتى اللحظة الأخيرة عند الإصابة بالمرض. يموت الأهالي فقط لأنهم لا يستطيعون الوصول إلى المستشفى على الرغم من سهولة العلاج".

msf193180.jpg

تجاوزت الساعة الحادية عشرة ليلاً حيث يتلقى الدكتور سكايني مكالمة لحالة طارئة. هناك من أمام المستشفى، تنطلق سيارة الإسعاف حيث تمزق أضواؤها ظلمة الليل. وبعد دقائق، يتمدد جسم صغير على السرير في غرفة الطوارئ. وتحت بطانية البقاء على قيد الحياة، يمر الطفل البالغ من العمر 13 عاماً، معصوب الرأس، بحالة تشنج. فقبل ساعات قليلة، كان يقاتل على الجبهة حيث أصيب بعيار ناري. لا يوجد في مستشفى حيدان أي غرفة عمليات، لذلك يقوم الطاقم هناك بترتيب الإجراءات لنقله إلى صعدة. وبعد بضع دقائق، تختفي سيارة الإسعاف في الظلام وعلى متنها روح ربما فارقت الحياة.

هذه إحدى قصص الأرواح التي فارقت الحياة تحت جنح الظلام... قصة صراع مغلق الأبواب في منطقة خرجت من الزمن، يموت المدنيون فيها تحت القنابل، دون أن يُلقى لهم بال، بينما يموت أطفالها وهم يقاتلون دفاعاً عن مصالح ليست لهم.