تمرير

نشعر بالتواضع ونحن نقف أمام شجاعتهم

23 سبتمبر 2019
تدوينة
الدول ذات الصلة
منطقة البحر المتوسط
شارك
طباعة:

يعاني الكثير من الناس الذين تنتشلهم فرق البحث والإنقاذ العاملة في البحر الأبيض المتوسط من جراحٍ نفسيةٍ لا تراها العين، وقد نتجت عن تعرضهم للصدمات التي أجبرتهم على الفرار من ليبيا. وفيما يلي تروي لنا ستيفاني، التي تقود فريق المنظمة الطبي العامل على متن سفينة أوشن فايكينغ، حكاية هؤلاء الناس ...

نفّذت سفينة أوشن فايكينغ إلى الآن أربع عمليات إنقاذ، وكان فريق أطباء بلا حدود يجري بعد كل عملية إنقاذ تقييماً طبياً أولياً يعاين خلاله الاحتياجات الطبية للناس الذين تم إنقاذهم.

فعملنا لا يقتصر على تقييم الندب والجروح وغيرها من المشاكل الجسدية التي تتطلب عناية طبية فورية، بل نبحث أيضاً عن أولئك الذين يحتاجون إلى دعم نفسي إضافي.

الإنهاك

يكون الناس منهكين تماماً حيث يصعدون على متن سفينة أوشن فايكينغ، بعد أن قضوا ساعات طوال في عرض البحر، محرومين من النوم والماء والطعام.

ترعرع العديد منهم في مناطق النزاعات وأجبروا على الفرار برفقة أسرهم، كما أن بعضهم فقدوا أقارب لهم وخاضوا رحلة خطيرة عبر الصحارى ومروراً بليبيا، دون من يرافقهم.

وحين يصلون إلينا تجدهم يعانون من نقص السوائل والضعف الجسدي العام والدوار وارتفاع أو انخفاض الحرارة والحروق التي تنجم عادةً عن الوقود أو الشمس، كما تجدهم يعانون من جروح حديثة تعرضوا لها خلال عبورهم البحر.

نظرة الألف ميل

بعد مرور 24 ساعة، يبدأ الناس بالتعافي من هذه الأعراض الأولية، لكنهم يستمرون في المجيء إلينا خلال الأيام التالية وهم يشكون من أعراضٍ بسيطة تتراوح بين الأوجاع والآلام البدنية العامة والدوخة وآلام البطن والشعور بالوهن.

مجموعة من الناس الذي أُنقِذو ويجري نقلهم إلى سفينة أوشن فايكينغ، علماً أن الطواقم تبدأ بالضعفاء منهم كالأطفال والنساء الحوامل والمرضى

كثيراً ما تكون هذه الأعراض نفسية المنشأ، أي أن الجسد يستجيب لصدمة نفسية فيما يكافح العقل للتأقلم معها.

كما أننا غالباً ما ننجح في تحديد الأشخاص الذين يعانون من مشاكل نفسية خلال الاستشارات الأولية التي هدفها معاينة العلل والجروح والندب الجسدية.

نرى كيف يسرح هؤلاء الناس بأفكارهم ومن ثم يحدقون وقد اعترت وجههم "نظرة الألف ميل"، كما تختلف ردود فعلهم عن المرضى الآخرين، ويمكن أن تتجسد في فرط الإحساس بالألم أو اللمس خلال الفحوص الطبية أو بالعكس، أو المبالغة في الحيطة وتوخي الحذر، أو حتى ردود فعل جسدية غير اعتيادية لبعض الأدوية.

msf281509.jpg

الصدمات طويلة الأمد

لا تقتصر الصدمات التي يعاني منها هؤلاء الناس على حدث واحد فحسب، وأحياناً تكون نتيجةً لتراكم عدة مشاكل بدأت منذ الطفولة.

فالعديد منهم يخبروننا عن نشأتهم في مناطق متضررة بالنزاع واضطرارهم إلى الفرار برفقة أسرهم، كما أن بعضهم يخبروننا عن فقدانهم لأقارب لهم وخوضهم رحلة خطيرة عبر الصحارى ومروراً بليبيا، دون من يرافقهم.

تقدم العيادة مساحةً آمنة تسمح لنا بمعاينة تلك اللحظات التي تفتح البصيرة. عندها نشعر بالتواضع ونحن نقف أمام شجاعتهم ونستمع لهم.

معظم القاصرين الذين نلتقي بهم على متن السفينة لم يذوقوا قط طعم الحياة في مكان آمن وبيئة مستقرة، ولم يعرفوا أبداً معنى اللعب في مكان آمن وهم أطفال.

لكنهم يعلمون كل العلم معنى الحذر الدائم والترحال المستمر، حيث لا شيء سوى القلق وغياب اليقين. وغالباً ما نكتشف حين نتحدث إليهم كيف أن هذه الحياة قد صارت "أمراً طبيعياً" بالنسبة لهم.

مساحة آمنة

msf282253.jpg

يوجد معنا الآن 356 شخصاً على متن السفينة، ومن الضروري أن نقضي وقتاً برفقة كل واحد منهم.

فبعضهم لم يتواصل مع أسرته وأصدقائه منذ وقت طويل، كما أن هذه الاستشارات الطبية التي ننفذها على متن سفينة الإنقاذ قد تكون المرة الأولى التي يجد فيها هؤلاء الناس من يستمع لهم أو يقدم لهم رعاية كريمة منذ أمد طويل.

يأتينا بعضهم إلى العيادة حيث ينفجرون بالبكاء لأنهم لم يعتادوا على المعاملة باهتمام واحترام. كما يشعر بعضهم أنه لا يستحق الاهتمام، سواء أكان اهتماماً طبياً أم لا. قد تجد شاباً عاش طيلة حياته وهو يعاني في صمت ويحسّ بأن لا وجود له بين الناس، لكن الآن وربما لأول مرة في حياته، سنحت له الفرصة ليحكي قصته.

تقدم العيادة مساحة آمنة تسمح لنا بمعاينة تلك اللحظات التي تفتح البصيرة. عندها نشعر بالتواضع ونحن نقف أمام شجاعتهم ونستمع لهم.

غياب اليقين

نعالج في عيادتنا التي نديرها على متن أوشن فايكينغ الجراح والمشاكل البدنية، كما نحاول أن نفعل ما في وسعنا لنقدم على الأقل الإسعافات الأولية النفسية.

لكن هؤلاء الناس بحاجة إلى دعمٍ نفسيٍ على متن السفينة أكبر بكثير مما يستطيع فريقنا أن يقدمه خلال تلك الفترة القصيرة التي يقضيها معهم هناك.

فقد مرّ هؤلاء الناس بالكثير من المحطات التي غاب عنها الأمن وخاضوا رحلةً عانوا خلالها من الصدمات، بدءاً بمغادرتهم وطنهم ومروراً بليبيا وانتهاءً بالقارب المطاطي الذي صعدوا على متنه، ناهيك عن التأخيرات التي تعترض إنزالهم في موانئ آمنة والتي ستعرضهم مرة أخرى للقلق وغياب اليقين... كل هذا يجعلهم يشعرون بأنه لا قيمة لهم وأنهم أناسٌ غير مرحبٍ بهم.