تمرير

النزاع الطويل والنزوح المتكرر يخلفان صدمات جديدة على أهالي شمال شرق سوريا ويحرمانهم من التعافي على الصعيد النفسي

17 ديسمبر 2019
قصة
الدول ذات الصلة
الجمهورية العربية السورية
شارك
طباعة:

يدخل النزاع السوري عامه التاسع وثمة اليوم قرابة 12 مليون شخص بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، علماً أن الكثير منهم بحاجة إلى دعم الصحة النفسية، وهي مشكلة لا تلقى الكثير من الاهتمام. أما على الصعيد العالمي، فنجد أن الناس المتضررين بالنزاعات يرزحون تحت الأعباء الهائلة التي تخلفها مشاكل الصحة النفسية. وقد أظهرت مراجعة منهجية أجريت مؤخراً بأن واحداً من أصل كل خمسة أشخاص يعانون من علل نفسية.

يتعرض سكان سوريا للنزاع والإرهاب منذ قرابة عقد من الزمن، وقد شهد الكثير من الناس أحداثاً عديدة تركت فيهم صدمات. فقد أدى النزاع الطويل إلى تكرار النزوح واستنزاف الموارد الاجتماعية الاقتصادية وتدمير البنى التحتية، كما خلّف فجوات كبيرة في خدمات الرعاية الصحية. وهذا ما يؤدي إلى صدمات متكررة تؤثر على أهالي شمال شرق البلاد وتحول دون تعافيهم على الصعيد النفسي.

النزوح المتكرر يضعف من قدرة الناس على الصمود ويعيق تعافيهم بعد الصدمات

أدى النزاع السوري إلى أكبر أزمة لجوء في وقتنا هذا. وقد أجبر التصاعد الأخير للعنف في شمال شرق البلاد ما يقدر بنحو 180,000 شخص على الفرار من بيوتهم. كما اضطرت منظمة أطباء بلا حدود قبل ذلك إلى إجلاء طواقمها الدولية من البلاد، علماً أن فريقنا كان يقدم المساعدات للأشخاص الذين فروا من بيوتهم ويقيمون في تجمعات سكنية مكتظة في بلدة تل تمر. وقد رأت فرق أطباء بلا حدود أسراً يائسة تعيش حالة من الخوف والحيرة، علماً أن كثيراً منها قد فقدت أقارب لها وتركت كل شيء وراءها، كما أن هذه لم تكن المرة الأولى التي تمر فيها بمثل هذا الوضع.

يشار إلى أن الضائقة النفسية التي يعيشها أهالي شمال شرق سوريا جاءت نتيجة للصدمات الشديدة وتفاقمت إثر تكرار النزوح الجماعي. وقد كان زملاؤنا من أطباء بلا حدود حاضرين أيضاً في مخيم عين عيسى الواقع في شمال شرق سوريا والذي يقطنه نازحون منذ سنة 2017. فخلال 2016 و2017، فرّ أكثر من 507,000 شخص من محافظتي دير الزور والرقة المحاصرتين، مما تسبب بتدفق النازحين إلى مخيم عين عيسى. وكشفت دراسة أجريت في المخيم عن وجود معدلات كبيرة للتعرض للعنف والضغط النفسي. فقد شهد 19 بالمئة من الناجين على فظائع مثل الجلد العلني والإعدامات والتنكيل العلني بحثث الأموات. وبالنسبة للرجال، فقد تعرض 16 بالمئة منهم للاحتجاز أو الاختطاف، في حين تعرض 11 بالمئة للتعذيب أو الضرب أو الهجوم. كما كان أكثر من ثلث المشاركين في الدراسة يعانون من الضغوط والاضطراب والضيق لدرجة أنهم أصيبوا بخمول كلي تقريباً، وظهرت على ثلث المشاركين أيضاً أعراض واضحة للاكتئاب، في حين شعر 14 بالمئة منهم بأنهم يائسون لدرجة لم يعودوا يرغبون في متابعة الحياة.

نجد بأن التعافي النفسي في مثل هذه السياقات يواجه معوقات، إذ غالباً ما يفتقر الناس إلى رأس المال الاجتماعي والمالي لتحسين أوضاعهم خاصةً وأنهم يأتون إلى مجتمعات مضيفة ضعيفة بالأساس ولا تتمتع سوى بقدرات محدودة لدعم القادمين الجدد. وهذا ما يكاد يحرم الكثيرين من الطعام والماء وخدمات الصرف الصحي والإسكان وخدمات الرعاية الصحية المناسبة والتعليم. وهناك أيضاً مجموعات سكانية معينة تكون عرضة أكثر من غيرها للضغوط والمشاكل النفسية كالمسنين أو ذوي الاحتياجات الخاصة أو الأطفال غير المصحوبين أو الأمهات الوحيدات المسؤولات عن إعالة الأسر.

يعتبر المرضى الذين يعانون من مشاكل مزمنة من المجموعات الضعيفة أيضاً، حيث تنتشر التلاسيميا (فقر دم حوض البحر الأبيض المتوسط) في سوريا ويتطلب المصابون بها رعاية طبية على المدى الطويل. وقد كانت فرق أطباء بلا حدود العاملة في مستشفى تل أبيض الوطني تقدم العلاج لقرابة 300 مريض مصاب بالتلاسيميا معظمهم أطفال، إلى أن أجبرها التصعيد الأخير للعنف على تعليق أنشطتها، علماً أن وقف علاج هؤلاء المرضى يعرض حياتهم للخطر ويؤدي إلى مضاعفات ويؤثر بشكل كبير على صحتهم النفسية. كما يواجه المصابون بأمراض مزمنة كالتلاسيميا خطراً متزايداً للإصابة بالاكتئاب، حيث أن الشعور بفقدان السيطرة يصبح مبعثاً للضغط النفسي على هؤلاء المرضى وأسرهم ويزيد من خطر تعرضهم للأذى النفسي.

المشاكل الصحية النفسية الناجمة عن تكرار الصدمات والنزوح تتطلب استجابة متعددة الجوانب

لا يزال النزاع في شمال شرق سوريا مستمراً دون حلٍّ يلوح في الأفق، ولهذا يعيش الكثير من الناس في وضعية "قاتل أو اهرب"، أي يتوقعون حدوث مصائب في المستقبل في حين لا يزالون فاقدين للآليات اللازمة للتعامل مع الصدمات التي يعانون منها.

ويتطلب علاج المشاكل الصحية النفسية الناجمة عن تكرر الصدمات والنزوح استجابةً متعددة الجوانب. فلا بد أن تترافق العلاجات النفسية السريرية بجهود تهدف إلى تحسين ظروف المعيشة الصعبة وتعزيز آليات الحماية المجتمعية. ولا يكفي التركيز على معالجة مسألة التعرض للعنف، إذ يجب أن تنال معالجة المشاكل النفسية موضع الأولوية إلى جانب الاحتياجات الأخرى كالتغذية وعلاج الأمراض المزمنة وقضايا السلامة الشخصية.

وقد كشف دراسة بحثية بأن الناجين من الصدمات يضعون صحتهم النفسية موضع الأولوية ويعتبرونها شرطاً لا بد منه لتحقيق الكفاءة الذاتية، غير أن العمليات العسكرية الأخيرة في شمال شرق سوريا أدت إلى نزوح جماعي للسكان الضعفاء أساساً وعرّضتهم مرة أخرى للصدمات، كما أجبرت منظمة أطباء بلا حدود وغيرها على تعليق الخدمات الطبية الضرورية جداً لمن هم في حاجة ماسة إليها والتي تشمل توفير الرعاية الصحية النفسية. ولهذا لا تزال الأعباء الخفية للصدمات النفسية تتفاقم في شمال شرق سوريا.

أوليفيرا نوفاكوفيتش أخصائية في علم النفس السريري ومعالجة نفسية (متخصصة في العلاج السلوكي العقلي الانفعالي/العلاج المعرفي السلوكي) تعمل مديرةً لأنشطة الصحة النفسية مع أطباء بلا حدود.

سالي ماكفينيش طبيبة متخصصة في الصحة العامة في لندن وتعمل حالياً ضمن فريق وحدة مانسون التابعة لمنظمة أطباء بلا حدود المملكة المتحدة.