تمرير

إجراءات فرز المرضى

7 مايو 2020
شارك
طباعة:

عندما تكون الظروف استثنائية ويكون الطلب على الرعاية أكبر من الإمدادات، كيف نقرر بمن سنبدأ؟ فرز المرضى ضروري حين يكون مستوى الطلب استثنائياً، مما يستدعي اللجوء إلى إجراءات معينة لتحديد الأولويات.

مقابلة مع جان هيرفي برادول تجريها إلبا رحموني وترتكز في مضمونها على مقال بعنوان "في حالات الكوارث: حدّد وجهتك، ثم افرز المرضى، ثم تصرف" الذي نشر في كتاب "طب فرز المرضى. تاريخ، أخلاقيات، أنثروبولوجيا" الذي شارك في تحريره كل من سيلين لوفيف وغيوم لاشينال وفين كيم انغوين.

ما هي هذه الإجراءات؟

حددت منظمة الصحة العالمية إجراءات فرز المرضى كالتالي: "يجب تقسيم المرضى إلى مجموعات وفقاً لخطورة إصاباتهم ويتعين اتخاذ القرارات المتعلقة بالعلاجات التي يمكن تقديمها لهم بما يتوافق مع الموارد المتوفرة وفرصهم في النجاة. وينبغي أن ترتكز هذه القرارات على مبدأ تخصيص الموارد بما فيه مصلحة أكبر عدد ممكن من الناس من الناحية الصحية". وبالتالي فإن فرز المرضى يقدم من الناحية النظرية دليلاً رياضياً يبيّن تفوقه على الشكل الاعتيادي من الأنظمة المتبعة التي تقوم على التوفيق بين الإمدادات والطلب على الرعاية من مبدأ الكمّ، وهو ما ينعكس في انخفاض عدد الوفيات.

أما عمّال الرعاية الصحية فيعتبرون إجراءات فرز المرضى على المنعطف الذي يستوجب الانتقال من مجموعة أخلاقيات معينة إلى مجموعة أخرى. الأولى هي تلك المجموعة التي نعتمدها في الأحوال الطبيعية وتركز على المصالح الفردية للمرضى والجرحى. لكن حين نواجه أوضاعاً استثنائية يتفوق فيها الطلب على الإمدادات بشكل أكبر بكثير مما هو عليه في الأحوال العادية، فإننا نواجه مخاطر محتملة بإهدار الموارد الشحيحة وتضييع الوقت الثمين ونحن نولي اهتماماً زائداً بحالات يكون فيها إنذار المرض (توقعات سير المرضى) جيداً جداً أو على العكس سيئاً جداً. وعندها يوصى باللجوء إلى مقاربة أخلاقية توصف على أنها نفعية، حيث يكون الهدف عندها "تحقيق المصلحة العليا لأكبر عدد ممكن من الناس" بحيث نضحّي بعدد صغير من الناس في سبيل المصلحة العامة.

لكن التوتر القائم بين المصالح الفردية والمصلحة الجماعية موجود أساساً حتى عندما لا تكون الأوضاع استثنائية، أي في سياق الإدارة الروتينية للرعاية. لكن مرور المجتمعات بمراحل استثنائية على غرار الكوارث يسلط الضوء بشكل أكبر من المعتاد على التمييز في إمكانيات حصول الناس على الرعاية، وهو أمرٌ يلاقي قبولاً أكبر في الأحوال العادية لأنه يتماهى مع الحياة اليومية بكل ابتذالها.

من أين أتت هذه الإجراءات وكيف تطورت؟

يعود استخدام مصطلح فرز المرضى على نطاق واسع ووضوح الغاية منه إلى الحرب العالمية الأولى: حيث كان يجري فرز الجرحى كي يُعاد من تسمح له صحته إلى قطعته العسكرية بأسرع وقت ممكن ولتأمين الرعاية بكفاءة على أمل أن تفادي وقوع وفيات وحالات عجز وظيفي شديد بين أولئك الذي مكثوا لتلقي الرعاية التي توفرها الخدمات الطبية قدر الإمكان. لكن منذ ذلك الحين واستخدامات مصطلح فرز المرضى تتنوع وتزداد اتساعاً.

وقد بات المصطلح اليوم أكثر استخداماً خارج سياقه الأصلي الذي يعرف بمصطلح ’حرب المواقع‘ كما هي حال الحرب العالمية الأولى. فقد شق مصطلح فرز المرضى طريقه إلى عمليات الاستجابة للكوارث الطبيعية والأوبئة والمجاعات وكذلك عند إدارة الخدمات اليومية في ظل شح الموارد، إلى جانب ترتيب دخول المرضى المتواجدين في غرف انتظار أقسام الحوادث والإسعاف إلى وحدات العناية المركزة.

على من تنطبق إجراءات فرز المرضى؟

يُفترض أن تنطبق إجراءات فرز المرضى على الجميع بناءً على المعايير الطبية والصحية ذاتها، وذلك بهدف تحقيق الكفاءة على مستوى جماعي وعلاج جميع الأفراد بإنصاف. لكن فكرة اعتبار الجميع سواسية من ناحية المبدأ خلال إجراءات فرز المرضى وعدم التفريق بينهم إلا على أساساً عدد صغير من المعايير الطبية المحددة فكرةٌ لها أوجه قصور من الناحية الطبية. فتبعات الإصابات الصدرية البليغة تختلف بحسب وضع المريض أساساً من حيث كونه سليماً معافى أم أنه يعاني من مشاكل تنفسية مزمنة.

وبعيدداً عن أوجه القصور الطبية، لا بد من الأخذ بعين الاعتبار معايير أخرى. فهناك استثناءات مشروعة لقاعدة التوزيع العادل للرعاية بين الناس. إذ علينا مثلاً أن ندرك أن عدم منح أولوية الرعاية لشخصيات بارزة وقيادية في المجتمع قد يفاقم من الكارثة وما يرافقها من اضطرابات اجتماعية.

لكن ما يقلقنا أكثر هو الظروف التي تجعل من المساعدات الطارئة وسيلة تُستَغَل لمصلحة طرف دون آخر، خدمةً لمقاتلين أو فئات سياسية معينة على سبيل الثمال. وقد تكون الغلبة أيضاً لمصالح اقتصادية معينة: كمصالح انتهازيّي الحروب في سياقات النزاعات المسلحة أو بشكل عام النصابين والمحتالين المتواجدين داخل وخارج المنظمات ممن يرون في الكوارث فرصةً للاتجار.

نجد أيضاً ظواهر أكثر شيوعياً خلال العمل. ففي فرنسا على سبيل المثال، ورغم وجود معايير طبية دقيقة، إلا أن احتمال الموافقة على طلب إدخال المريض إلى وحدة العناية المركزة عن طريق الهاتف أقل من احتمال الموافق عليه إذا ما تم وجهاً لوجه، كما تختلف النسبة باختلاف أوقات اليوم. وبالتالي فإن اختيار المرضى غالباً ما يعتمد في الواقع على أشكال التمييز المعتادة التي نراها عموماً في المجتمع والتي تتمخض عن قائمة من الأعراف التقليدية التي تتغير دائماً وتشمل اللغة (طريقة اللفظ)، أسلوب الحياة، إلخ...

كيف يتم تطبيق إجراءات عزل المرضى؟

عندما ننظر إلى طب الكوارث بعين مثالية، مفترضين بأن الأشخاص يتلقون العلاج بالتساوي، فإننا نقع على افتراضٍ ثانٍ ألا وهو أن ثمة سبباً واحداً (أو عدداً قليلاً من الأسباب) يؤدي إلى عدد استثنائي من الحالات التي تتشابه في طبيعتها ولا تختلف سوى من حيث خطورتها. ونعول أملنا في هذه الحالة على إجراء تعديلات سريعة على إمدادات الرعاية ظناً منا بأن قلة الأسباب تسمح بتبسيط العلاج وبالتالي تؤيد فكرة توفير مساعدات سريعة وواسعة النطاق. وهنا يمكن إعادة التوازن لمعادلة الإمداد والطلب على الرعاية على حساب اختصار تنوع السيناريوهات السريرية ضمن فئات معدودة بناءً على خطورة الحالة، لنصل عادةً إلى عدد يتراوح بين اثنين إلى خمسة، وهذا يعتمد بدوره على أنظمة فرز المرضى المختلفة.

لكن الواقع يقول أن فكرة السبب الواحد لها أوجه قصور. فلو جاءنا مريضان وقد أصيب كل منهما بطلق ناري في المكان ذاته من الجسم، فإنهما قد يبدوان متماثلين تماماً لحظة وصولهما إلى قسم فرز المرضى بالاعتماد على المعايير القليلة المعتمدة لاتخاذ قرارٍ سريع (خلال دقيقة) بخصوص المكان الذي سيُرسل إليه كل مريض، علماً أن إنذار كل منهما يختلف عن الآخر بشكل كبير وهذا يتوقف على الأعضاء التي أصابتها الرصاصة حين دخلت الجسم. لكن لا يمكن كشف هذه الفروقات إلا بإجراء الفحوص السريرية المناسبة، غير أن الوقت لا يتوفر لإجراءها في إطار الظروف المعتادة.

صحيحٌ أن بروتوكولات الاستجابة للكوارث تبدو عقلانية بشكل واضح، لكنها في الحقيقة تعتمد إلى حد كبير على حجج مستنتجة من معارف علم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجيا) والخبرات السريرية المكتسبة بالممارسة. لكن حين نجري الدراسات العلمية رغماً عن الظروف الخطيرة، تبين لنا النتيجة كيف أن إجراءات فرز المرضى تعاني من أوجه قصور من الناحية العملية. حيث أن وفرة الموارد يسمح للعاملين القائمين على فرز المرضى باتباع خطوات تميل إلى تجنب إطلاق إحكام مسبقة على المرضى في وقت من الأوقات. وعندها يسعى العاملون في أغلب الأحيان إلى تحديد الأولويات بالاعتماد على تطبيق المعايير بشكل صارم. أما حين تشحّ الموارد، فإن الغلبة تكون للرغبة في حماية مصالح المجتمع ككل. وهنا يكون المرضى عرضةً للإهمال رغم إمكانية إنقاذ حياتهم لو أن تم اعتبارهم أولوية.

غالباً ما يعتبر الأدب الطبي مسألة ترشيد الرعاية لمصلحة بعض الناس وإلحاق الضرر بآخرين مبعثاً لمعضلات أخلاقية هامة. ومن أشيع الأمثلة المتداولة حدوث تدفق كبير للمرضى والجرحى وعدم محاولة تغيير فرص نجاة المرضى الذين تكون إصابتهم خطيرة جداً. وبالتالي تقتصر رعايتهم على العلاج الملطف بحيث تنتهي حياتهم بأقل ألم ممكن. أما في الواقع، فإن فرص نجاة أشخاص يحتضرون تتضاءل في ظل الكوارث، علماً أنها أساساً ضعيفة في الأحوال العادية، ويعود تضاؤل هذه الفرص إلى ظروف معيشتهم الصعبة وسوء مستوى الرعاية التي يحصلون عليها. وحين يتلقى مثل هؤلاء المرضى الرعاية، فإن القلق الذي يداهم من يقدم لهم هذه الرعاية ينبع من الصعوبة التي يواجهونها في قبول عجزهم وضعفهم في وجه الكارثة الجلل أكثر من كونه نابعاً من ممارستهم سلطةً تخولهم تحديد من قد يعيش ومن قد يموت خلال فرز المرضى، وهو فعلٌ قاسٍ في طبيعته.

كيف يمكن قبول هذه الإجراءات؟

يضطر القائمون على الرعاية إلى اتخاذ القرارات في فرز المرضى، ولتبرير هذه القرارات نجدهم يلجؤون إلى مصطلحات تركز في ضمنها على أن الجميع لن يحصلوا على العلاج ذاته بل الهدف هو تقليل عدد الوفيات بين الناس بأكبر قدر من الفعالية. علماً أن اعتقادهم بقدرة هذه التبريرات على إقناع شخص يعاني من ضائقة إنما يقوم على فرضية مفادها أن هؤلاء الأشخاص سيتحملون المعاناة بصمت في سبيل مصحلة الأكثرية. غير أن التجربة بيّنت أن التلويح بالمصلحة العامة لا يكفي دائماً لتهدئة الناس الذين يواجهون مواقف صعبة ولا أولئك المقرّبين منهم. فاللجوء إلى هذه القوة التي أقل ما يقال عنها بأنها قوة رادعة أمرٌ محتوم في الغالب، وهدفه على سبيل المثال الحؤول دون تعرض مخازن الصيدليات والغذاء للنهب على يد جموع غاضبة من أناس حرموا من المواد الأساسية التي لا غنى لهم عنها للبقاء على قيد الحياة.

ومن هذا المنطلق فإن نجاح عمليات الطوارئ يتحقق حين يؤدي إلى تعبئة اجتماعية وسياسية استثنائية قادرة على حشد توافق جماعي حول توزيع الإغاثة والرعاية بهدف الحؤول دون وقوع اضطرابات اجتماعية وسياسية على نطاق كبير جداً. وبالتالي يظهر هنا جوهر فرز المرضى الذي يعتبر المرحلة الأساسية في عملية ترتكز على مبدأ الترشيد واستتباب النظام. ولا يحقق فرز المرضى غايته إلى حين يراه الناس على أنه إقرارٌ بعرف اجتماعي جديد في توزيع الموارد الشحيحة.

تقوم كل عملية على عاتق شخص أو عدد صغير من الأشخاص المسؤولين على توزيع الرعاية والمساعدات، حيث لا يؤدون دورهم على أكمل وجه إلا حين يدركون ولا ينسون بأن فرز المرضى ليس مجرد آلية عمل إنما نقلة من أحد أشكال عدالة التوزيع إلى شكل آخر، سواءٌ أكان هذا للأفضل أم للأسوأ. علماً أن الهدف ليس اتباع العرف الجديد بشكل أعمى إنما الاعتماد عليه كنبراس يقودنا إلى إعداد سياسة إغاثية تتغير كل مرة بهدف الاستجابة بأكبر قدر من الفعالية في ظل وضع استثنائي وتلبيةً للاحتياجات المحددة لضحايا هذا الوضع.