تمرير

السودان - عشرة أعوام في علاج مرض يتوارى في الخفاء

14 يونيو 2020
نشرة صحفية
الدول ذات الصلة
السودان
شارك
طباعة:

"بعد أن افتتحت أطباء بلا حدود مركز العلاج في مستشفى تبارك الله في يناير/كانون الثاني من عام 2010، كنا نستقبل ما يصل إلى 150 مريضاً يومياً خلال الشهر الأول، وكان بعضهم قد قطع مسافة 130 كيلومتراً للحصول على العلاج من الكالازار. لم يكن ثمة متّسعٌ يكفي في المبنى، ولهذا كنا نضطر إلى علاج الناس تحت إحدى الأشجار، من ثم نقلهم إلى ملاجئ مؤقتة، إلى أن بنينا في نهاية المطاف جناحاً جديداً. كنت متفاجئاً جداً بهذا الكم الكبير من المرضى، إلا أن زملائي السودانيين لم يكونوا كذلك. فالقضارف كانت واحدة من أكثر مناطق السودان تضرراً بالكالازار، لدرجة أن سكان بعض القرى بأكملها كانوا مصابين به". تلك كانت كلمات القائد السابق للفريق الطبي التابع لمنظمة أطباء بلا حدود د. داغيمليديت وركو الذي أشرف على افتتاح مركز علاج الكالازار ضمن مستشفى تبارك الله في ولاية القضارف عام 2010 خلال واحدة من أكبر تفشيات المرض.

وقد قامت المنظمة بعد الاستجابة الأولية للتفشي في 2010 ببناء مركز علاج يضم ثلاثة أجنحة داخلية عززت من طاقة المستشفى الاستيعابية لتصل إلى 100 سرير. كما هيأت فرق أطباء بلا حدود نظاماً لتوزيع المياه اشتمل على خدمات نقل يومية لتأمين مياه الشرب النظيفة للمرضى. كذلك شيدت المنظمة مختبراً ومنطقة لإدارة النفايات ومستودعاً للأدوية ومنطقة لغسيل ملابس المرضى ومرافقيهم وجناحاً لعزل المرضى الداخليين المصابين بأمراض معدية وجهزتها كلها بما يلزم. كما وضعنا مولدة لتزويد المستشفى بالكهرباء على مدار الساعة.

ويقول مستشار الطب المداري في أطباء بلا حدود د. غابرييل ألكوبا: "عندما بدأنا في عام 2010 كان الوضع بالغ الصعوبة. ومن حينها عالجت أطباء بلا حدود نحو 6,000 مريض كالازار في القضارف". ويضيف: "قد لا يبدو هذا رقماً كبيراً، إلا أن كل مريض يُعالَج إنما هو حياة يتم إنقاذها (كون هذا المرض يسبب معدل وفيات مرتفع).

يشهد السودان واحداً من أعلى معدلات الكالازار (المعروف أيضاً باسم الليشمانيا الحشوية) في شرق إفريقيا. علماً أن المنطقة المحيطة بمدينة القضارف التي تبعد 500 كيلومتر إلى الشرق من العاصمة الخرطوم وتقع على مقربة من الحدود الإثيوبية هي الأكثر تضرراً بهذا المرض.

الكالازار مرض مداري فتاك ينتقل عبر ذبابة الرمل. ويقع معظم ولاية القضارف ضمن أحراج السافانا الجافة التي تضم أعداداً كبيرة من أشجار السنط والهجليج التي تنمو على التربة السوداء المتشققة، مما يهيء بيئة خصبةً لازدهار تلك الحشرات الصغيرة التي تنقل المرض. إذ أنها تختبئ في الشقوق التي تتشكل في التربة بعد انتهاء موسم الأمطار أو في جذوع الأشجار، وكذلك في الجدران الطينية الجافة التي تتميز بها بيوت تلك المناطق. الكالازار مرض معروف لدى الكثير من الناس في القضارف، وقد لا تجد شخصاً لا يعرف أحداً أصيب بهذا المرض.

msf322535high.jpg

في السودان كما في أي مكان آخر يؤثر مرض الكالازار في المجتمعات الأكثر فقراً والأكثر تهميشاً. فمعظم الناس في ولاية القضارف مزارعون بسطاء أو رعاة لا يملكون سوى قطعاناً صغيرة ويعيشون في قرى نائية لا تتوفر فيها إلا خدمات صحية محدودة للغاية. وهنا تبرز الفوارق الهائلة على الصعيد الاجتماعي الاقتصادي، حيث يسيطر على الأراضي الخصبة شركات زراعية كبيرة تزرع الذرة البيضاء والسمسم والدخن كمحاصيل رئيسية.

يؤثر الكالازار بشكل خاص في الأشخاص الذي أضعفهم سوء التغذية أو الذين يعانون من قبل من أمراض أخرى تُضعف الجهاز المناعي كالإيدز أو السل. وإذا لم يعالَج المرض يودي بحياة صاحبه. الأطفال دون سن العامين والمسنون هم الأكثر عرضة لخطر الإصابة لأن مناعتهم منخفضة.

ويقول د. ألكوبا: "في عام 2010 كان كل مريض يحتاج إلى 30 يوماً من الرعاية الاستشفائية والحقن المؤلمة. غير أن العلاج الآن لا يستغرق اليوم سوى 17 يوماً من المكوث في المستشفى. كما كان معدل الوفيات عالياً لكننا خفضناه من حوالي 10 بالمئة إلى 1 بالمئة. كذلك لم تتوفر سابقاً الأدوية المشتركة، أما العقارات المتوفرة فقد كانت سامة، فيما كان اختبار الكشف عن الكالازار أكثر تعقيداً. غير أن الكثير من الأمور تحسنت منذ ذلك الحين. فقد باتت تتوفر اختبارات وعلاجات أفضل عالمياً، وقد اعتمدناها في مركزنا. فمثلاً في عام 2011، نجحت الأدوية التي حازت وقتها على الترخيص والتي تعتمد على عقارات الأنتيمونيات والبارومومايسين إلى خفض مدة علاج الكالازار. كما أن توفر عقار أمبيسوم الذي يعطى وريدياً ويعتبر من أدوية الخط الثاني قد قلل من معدل الوفيات بين المرضى الضعفاء كالأطفال وكبار السن والمصابين بفيروس نقص المناعة البشرية. لكن بالرغم من أنه أكثر أماناً من سابقيه ويتطلب التداوي به وقتاً أقصر، إلا أنه لا يزال يستدعي إعطاء المريض حقنتين مؤلمتين كل يوم، كما ينبغي حفظه مبرداً، وهذا ما يشكل عائقاً أمام استخدامه في العيادات المحلية".

msf322552high.jpg

يشار إلى أن المرض لا يتطور لدى جميع من يتعرضون للكالازار، بل يمكنه أن ينتشر بصمت ما لم يخضع كل شخص يعاني من حمى مستمرة وطحال متضخم للاختبار في أحد المراكز الصحية. من الجدير بالذكر أن الطفيلي يصيب أعضاءً في الجسم على غرار الكبد والطحال ونقي العظام ويستنزف جهاز المريض المناعي، مما يجعل المصابين به عرضةً لالتهابات أخرى خطيرة، علماً أنه مرضٌ قاتلٌ بشكل شبه مؤكد ما لم يعالج. ويوجد الآن فحص سريع وغير مكلف للكشف عن الكالازار.

يضيف د. ألكوبا: "يعود تاريخ الكالازار إلى زمن بعيد. لكن الناس هنا يرونه كحمى خطيرة جداً نظراً لصعوبة علاجه. والأهم هو أن تشخيص الكالازار يعتبر أمراً في غاية الصعوبة، فبعيداً عن الحمى التي تدوم طويلاً والطحال الذي يتضخم، لا بد من أن يكون اختبار التشخيص إيجابياً كي تبدأ مرحلة العلاج. ولهذا يشار إليه بأنه المرض الذي يتوارى في الخفاء. هناك أمراض أخرى كالملاريا يمكن علاجها في أي مركز محلي للرعاية الصحية، إلا أن الكالازار يتطلب دخول مستشفى أو مركز مجهز بطواقم متخصصة ومختبرات، وهي مرافق كانت قليلة جداً قبل عشر سنوات".

كانت منظمة أطباء بلا حدود تسعى إلى تحسين العلاج في البلد، ولهذا فقد أسست مركزاً تدريبياً متخصصاً في الكالازار وسهلت تدريب طواقم وزارة الصحة العاملين في مراكز مكافحة الكالازار في مناطق أخرى من السودان، علماً أن التدريبات ركزت على التشخيص والعلاج والتمريض. بعدها وقعت المنظمة شراكة مع مركز أبحاث الكالازار التابع لجامعة القضارف قمنا بموجبها بتدريب طلاب الطب والطواقم على الجانب النظري، إضافةً تدريبات عملية في المستشفى.

يتابع د. ألكوبا قائلاً: "تمكنّا من تشارك أدوات التشخيص مع المراكز الصحية الأخرى ونجحنا في تدريب للطواقم الطبية المحلية على إجراء اختبار تشخيص الكالازار. وهكذا لم يعد الناس مضطرين إلى السفر لمدة ساعات كي يخضعوا للاختبار، الأمر الذي يسهم في إنقاذ حياة مزيد من الناس. وفي كل زيارة لي إلى مستشفى تبارك الله منذ عام 2014 كنت أرى تقدماً واضحاً على صعيد الإدارة السريرية وتشخيص الطفيليات".

وتقول ماريا تريفيسونو، قائدة الفريق الطبي التابع للمنظمة والمسؤول عن مشروع الكالازار في القضارف: "أخبرنا عمال الرعاية الصحية المجتمعية المتواجدين في بعضٍ من أكثر القرى تضرراً بأن الكالازار كان فيما مضى أشيع تواجداً بين مجتمعاتهم وبأن عدد المرضى قد قل اليوم كثيراً، كما قل عدد الوفيات. وقد تعززت جهود الوقاية بفضل زيادة التثقيف الصحي وفهم كيفية انتقال المرض والتي تشمل معلومات عن ذبابة الرمل وموائلها في بعض الأشجار وشقوق التربة".

قامت منظمة أطباء بلا حدود خلال الأشهر الستة الماضية بتسليم أنشطة الكالازار الطبية في مستشفى تبارك الله إلى وزارة الصحة بشكل تدريجي، علماً أن الأنشطة تشمل الخدمات المخبرية وتبرعت بإمدادات طبية تكفي لما تبقى من العام. وقد التزمنا أيضاً بالعمل لمدة أعوام طويلة على بناء القدرات وتدريب طواقم وزارة الصحة من القضارف وغيرها من المناطق في السودان.

وفي تعليقها على التسليم الرسمي للأنشطة إلى وزارة الصحة وطواقم مستشفى تبارك الله، تقول ماريا تريفيسونو: "نجحنا في إنقاذ حياة الكثير من الناس. وقد خففنا من عبء هذا المرض وانتشاره في ولاية القضارف، كما عززنا إمكانيات الحصول على العلاج وحسّنا من جودته. يشار إلى أننا عالجنا في الفترة الممتدة من يناير/كانون الثاني 2010 حتى أبريل/نيسان 2020 حوالي سبعة آلاف مريض حيث بلغ معدل الشفاء 100 بالمئة تقريباً. لكن هذا إنجاز مشترك، حيث وضعنا أيدينا في أيدي شركائنا في وزارة الصحة ومستشفى تبارك الله وتعاونّا في سبيل هدف مشترك ألا وهو السيطرة على الكالازار في السودان. وإننا على ثقة بأن شركاءنا سيحرصون على استمرار هذا البرنامج الناجح وتخصيص ما يلزمه من موارد وطواقم رعاية صحية".

تتصدر منظمة أطباء بلا حدود منذ أكثر من عقدين جهود علاج الكالازار وتشخيصه والأبحاث المتمحورة حوله على مستوى العالم. وقد أدت هذه الجهود إلى إحداث تقدم كبير من حيث تغطية الرعاية الصحية والابتكارات في هذا المجال، وسوف نستمر في جهودنا الداعمة لإيجاد وسائل تشخيصية وبرامج علاجية مبسطة وعقارات أكثر أماناً ونجاعة.

لكن لا يزال أمامنا طريق طويلة نحو السيطرة على هذا المرض الفتاك والقضاء عليه في السودان، وهو مرضٌ يؤثر بشكل رئيسي في الناس الأكثر فقراً وتهميشاً والذين لا ترى فيهم شركات الأدوية سوقاً جذابة. فهم لا يرون ربحاً في بذل جهود بحث وتطوير لمكافحة الكالازار.

يشار إلى أن تشخيص الكالازار لا يزال صعباً، في حين أن علاجه معقد ومؤلم ويستوجب وجود مستفشيات ومرافق مخبرية وطواقم تتمتع بالتدريب اللازم.

لكن تهيئة وسائل تشخيصية سريعة كتلك المستخدمة للملاريا وإيجاد أدوية فموية من شأنه أن يغير حياة مئات آلاف الناس في القضارف وغيرها من المناطق في العالم حيث لا يزال هذا المرض المهمل يفتك بصمت بحياة عشرات الآلاف سنوياً.

تعمل أطباء بلا حدود بوصفها منظمة طوارئ طبية على التكيف باستمرار لمواجهة الاحتياجات الإنسانية والصحية الحادة بدون تحيز وبأفضل طريقة ممكنة. ويتركز عملنا في ولاية القضارف على الاستجابة لفاشيات سوء التغذية والحصبة، ومؤخراً تفشي الكوليرا الذي حدث سنة 2019.

يشار إلى أن فرق أطباء بلا حدود العاملة في السودان تدير عدة مشاريع في ولايات الخرطوم وشرق دارفور والنيل الأبيض والقضارف وجنوب كردفان، ولا تزال فرقنا ملتزمة بتوفير المساعدات الأساسية التي من شأنها إنقاذ حياة الناس في خضم جائحة كوفيد-19.

منذ أن تأكدت أول إصابة بكوفيد-19 في السودان ومنظمة أطباء بلا حدود تدعم وزارة الصحة بهدف الإسهام في التقليل من انتشار المرض. كما نحافظ على التزامنا بمساعدة أهالي ولاية القضارف من خلال دعم عملية الاستجابة لكوفيد-19. حيث تتواجد فرقنا حالياً في مدينة القضارف لتعزيز تدابير الوقاية من العدوى والسيطرة عليها ودعم إجراءات المياه والصرف الصحي والنظافة، كما أنها تدرّب العاملين وتقدم الحوافز والدعم الفني للسلطات الصحية. وقد يكون كوفيد-19 شديداً بشكل خاص على مرضى الكالازار بسبب ضعف جهازهم المناعي لذلك هم بحاجة إلى الوقاية والفحص المبكر بشكل خاص.