تمرير

غزة: أصعب ما في الإصابة هو عدم قدرتك على المشي

9 أغسطس 2018
قصة
الدول ذات الصلة
الأراضي الفلسطينية المحتلة
شارك
طباعة:

يعمل جاكوب بيرنز كمستشار اتصال في منظمة أطباء بلا حدود وقد زار مؤخراً مشروع غزة ورأى رأي العين المعاناة الجسدية والنفسية التي يعيشها المئات من الشبّان والفتيات، الذين أصيبوا بعياراتٍ نارية أطلقتها القوات الإسرائيلية عليهم أثناء مشاركتهم في مظاهرات مسيرة العودة.

بالنسبة لي، يُصبح تعريف الأماكن مرتبطاً ببعض الكلمات. بعض الكلمات المحلية تتكرر بصورة كبيرة إلى أن تتسلل إلى ذهنك وتصبغ الصورة التي يكوّنها ذهنك عن المكان. في غزة، ومن خلال حديثي مع المرضى الذين يأتون إلى أطباء بلا حدود، كانت تلك الكلمة هي "قاعد". وهنا لا يستخدم حرف القاف الذي يصاحب لفظه خروج الهواء من الحلق كما تُلفَظ الكلمة في القدس، بل يُلفَظ خشناً ومن مخرجٍ منخفض كحرف الكاف. (كاعد)، وكأن ألِفاً مضاعفةً ثقيلة تسحب الكلمة من الفم، مطيلةً المقطع الصوتي إلى أطول حدٍ ممكن. بطءٌ فيه تحدٍ يشعرك بأن شخصاً يريد أن يهدِّئ نفسه بالجلوس على الأريكة.

msf237671_medium.jpg

أحد الأسباب التي جعلتني أسمع كلمة "قاعد" تتكرر كثيراً هناك هو أنك حين تصاب بطلقٍ ناري في ساقك، لا يبقى الكثير مما يمكن أن تفعله سوى الجلوس. وفي غزة، هذا هو حال الكثيرين. مؤخراً، أصيب خلال إطلاق الجيش الإسرائيلي النار على المتظاهرين أكثر من 4100 شخص خلال الاحتجاجات التي قاموا بها منذ نهاية شهر آذار (مارس)، عالجت أطباء بلا حدود 1700 منهم. الغالبية العظمى من هؤلاء أصيبوا في الأطراف السفلية. انتشارٌ مفاجِئ، ومتعمَّد، للأرجل والسيقان المهشمة نتج عنه فئة جديدة من السكان: أولئك الذين ليس لديهم خيار آخر سوى أن يقعدوا وينتظروا إلى أن يتعافوا من الإصابة.

"لماذا ذهبتُ إلى المظاهرة؟" ردد مصعب موسى، الطالب الشغوف بدراسته للصحافة، السؤال بينما كان جالساً في العيادة في خان يونس وقد لُفَّ الجزء الصغير المتبقي من ساقه المبتورة بضمادة. وأجاب قائلاً "كنت أرغب منذ مدة طويلة بالذهاب إلى السياج، فقط لأراه. لم أكن أرمي الحجارة، كنت جالساً فقط عندما أصبت. شعرت وكأنني أصبت بصعقة كهربائية، ثم قام أخي بحملي وإيصالي إلى سيارة الإسعاف".

إنه واحد من مرضانا الكثيرين الذين يعانون من تأثيرات لإصاباتهم سترافقهم مدى الحياة. لقد هشمت الرصاصات التي انطلقت من بنادق الجيش الإسرائيلي العظم وهتكت اللحم، ومزقت الأوردة والشرايين. لم يسبق لفريق عملنا أن رأى هذا العدد الكبير من الإصابات بالأعيرة النارية خلال هذه المدة القصيرة. يأتي المرضى إلى عيادتنا في الصباح، مصطحبين أرجلهم المحاطة بصحائف معدنية حتى لا يخرج العظم من مكانه، حتى نغيَّر لهم الضماد. ويحرصون على تجنب حدوث التهاب في العظم وهو الكابوس الذي يتعرض له الكثيرون منهم. أما في غرف العمليات، فتقوم الطواقم الطبية بزيها الأزرق بفتح الأرجل المصابة لإخراج قطع العظم المتشظي، ومحاولة ترميم العضلات الممزقة وتطعيم الجلد لإغلاق الفتحات. إنه جهدٌ هائل.

msf237674_medium.jpg

تشرح لنا جوليا أماندو، وهي طبيبة برازيلية تعمل مع أطباء بلا حدود، الوضع الدقيق الذي يواجهه المرضى الذين أجرت لهم عمليات جراحية: "عندما تفقد الكثير من الأنسجة بسبب الجرح الذي خلفه الطلق الناري، تصبح الكثير من الأعضاء الحساسة مكشوفة، كالعظام مثلاً، وهو ما يعرض ذلك العضو لحدوث التهاباتٍ خطيرة، أو قد يؤدي إلى خسارة الطرف إذا لم يتم إغلاق الجرح". وهذه كانت مهمتها كطبيبة تجميل، قطع العضلات ووضعها بدقة بحيث تُغطى الفراغات المكشوفة بنسيجٍ حي. ولا يؤدي ذلك إلى شفاء المريض إلا أنه يعمل فقط على استقرار حالته. تقول الطبيبة: "حتى بعد إغلاق الجرح، فإن الكسر لا يزال موجوداً، وقد ضاع جزء كبير من العظم. لذا فإن المريض يحتاج إلى إجراء تطعيم للعظم، أي وضع قطعةٍ أخرى من العظم في الفراغ".

هناك سبب آخر لسماعي كلمة (كاعد) طيلة الوقت: الاقتصاد في غزة على حافة الانهيار. فالحصار الخانق الذي تفرضه إسرائيل منذ عشرة أعوام، بالإضافة إلى النزاع السياسي الفلسطيني الفلسطيني قد رفعا عدد العاطلين عن العمل إلى أرقام فلكية. يقول محمد دشان ، ذي التسعة عشر عاماً، من بلدة الزيتون: "قبل إصابتي كنت أدرس في الجامعة، ولكنني اضطررت إلى ترك الدراسة وجلست في المنزل بسبب الوضع المالي السيء". يضيف محمد بأن الغضب الناتج عن الوضع السياسي دفعه إلى أن يشترك في المظاهرات ويقول بأنه قد أصيب مرتين: المرة الأولى في 30 آذار (مارس) لكنها كانت إصابة بسيطة لم تمنعه من العودة للتظاهر. وفي المرة الثانية تمزقت ساقه بسبب رصاصةٍ أصيب بها في 11 أيار (مايو). حدثني محمد قائلاً: "والدي أيضاً لا يجد عملاً. والآن أنا أستلقي على السرير، لا أقوم إلا لكي أصلي ثم أعود للجلوس. وضعي ليس جيداً، أشعر بالغضب، وبالملل. ما أشعر به ليس أمراً طبيعياً". كان ذلك الحديث في لحظة ضعف غير معتادة، فهو في العادة متحفظ دائماً وقليل الكلام. إلا أنه أصر على أنه لا يبالي بالآثار بعيدة المدى التي ستخلفها إصابته إذ يقول: "أنا لا أفكر بالمستقبل. فكرت بالأمر مرتين أو ثلاثة، ثم نسيت الأمر".

msf237680_medium.jpg

وبعكس محمد، يٌفصِح الكثيرون من المصابين الآخرين عما تعنيه الإصابة بالنسبة لهم. يقول مصعب: "أصعب ما في الإصابة هو عدم قدرتك على المشي". ويتابع قائلاً: "أنا خائفٌ قليلاً مما تخبئه لي الأيام. ترى، هل سأتمكن من المشي ثانيةً"؟ هذا سؤالٌ لا يستطيع الجراحون العاملون في أطباء بلا حدود الإجابة عنه بعد بالنسبة للكثيرين. وها هو الربيع ينقضي ويحل فصل الصيف والشبان جالسون في منازلهم بانتظار معرفة إلى أي درجة يمكن أن يتعافوا. إلا أن الأمر الأكيد بالنسبة لأطباء بلا حدود هو أنه بدون العمليات الجراحية المعقدة – والتي هي غير موجودة في غزة بسبب الحصار- فإن الجواب للأسف سيكون "لا" بالنسبة لعددٍ كبير من هؤلاء الشبان.