هذه هي ثاني مهمةٍ لي مع منظمة أطباء بلا حدود في مشروع مشار كولوني في مدينة كراتشي.
أحد الأشياء التي كنت أتطلع إليها، بالإضافة إلى العودة لرؤية نجاح المشروع، هي طبق البرياني الشهير.
بينما تجوب شوارع "مدينة الأضواء"، وهو الاسم الذي تشتهر به المدينة، لن يخطئ أنفك تلك الرائحة التي تميز وجبة الطعام التي يحبها الجميع.
نكهة المدينة
وأنت على طريق السفر، ترى سيارات الفان الصغيرة تحمل كلُ واحدةٍ منها ثلاثة أو أربعة قدور ثقيلة. وإذا سألت أي سائق عما تحتويه تلك القدور فستحصل على إجابة واحدةٍ ومؤكدة: "برياني".
سترى أيضاً لوحات إعلاناتٍ كبيرةً على الطرق تحمل أسماءً مثل برياني سنتر أو برياني كراتشي، ولوحاتٍ أخرى على المباني على طول الطريق ومراكز التسوق. وفي المساء، وبينما تقود سيارتك في شوارع المدينة ترى العشرات من الأشخاص يجلسون ويستمتعون بتناول البرياني.
مشار كولوني
ولا يختلف الحال عن ذلك في مشار كولوني –وهو حيّ فقير في المدينة تدير منطمة أطباء بلا حدود فيه عيادةً لتقديم الرعاية الصحية الأساسية منذ عام 2012 ومستوصف رعاية لامركزي نموذجي لمعالجة التهاب الكبد C والكشف عنه منذ عام 2015.
يعمل معظم سكان هذا الحيّ في مصانع تعليب السمك أو في الأعمال المتعلقة بصيد السمك بشكلٍ عام.
حين تكون في حيّ مشار كولوني لن تفوتك ملاحظة قدورٍ كبيرةٍ يُطبَخ فيها البرياني بصمت على جوانب الطرق الصغيرة والمزدحمة حيث يتم بعد ذلك تحميل هذه القدور في سيارات الفان الصغيرة ونقلها إلى مختلف الأسواق لبيعها هناك.
هذا ما ألاحظه في معظم الأحيان حين أذهب للاجتماع بالزعماء المحليين.
وسيم: ملك البرياني
خارج عيادة أطباء بلا حدود ترى رجالاً يجلسون على سجادة ويستمتعون بتناول هذا الطبق. وحتى في الغرفة المخصصة للأكل داخل العيادة كثيراً ما يطلب الزملاء هذا الطبق الشهي أثناء استراحة الغداء. يوم الجمعة هو اليوم التقليدي لتناول البرياني في مكتبنا.
طباخنا الشهير، وسيم، معروفٌ بكونه ملك البرياني، فوفقاً للعاملين هنا فإن البرياني الذي يعدّه وسيم هو أفضل برياني يمكنك الحصول عليه على الإطلاق.
يأتي وسيم إلى المكتب كل صباح ليسأل الزملاء ماذا عليه أن يطبخ في ذلك اليوم، ثم يأتي إليّ فيبتسم ويقول "سيدي، هم يطلبون البرياني؟"
أبتسم أنا أيضاً وأجيب "لا، لا برياني" فقط لأرى ردة فعله.
ولكن طبعاً، ونظراً لمعرفتي بمدى حبهم لهذا الطبق، أقول دائماً مستسلماً "طيب. اطبخ لهم برياني". السبب الذي يجعله يسألني هو أنني قد أخبرته بأنني لم أعد أحبّ البرياني مثلما كنت من قبل وذلك لأننا نأكله مرات متكررة، ولكنني على الرغم من ذلك أكون دائماً من أوائل من يملأ صحنه بالبرياني كلما طبخه وسيم.
زملاؤنا في قسم التنسيق في أطباء بلا حدود والذين يقع مكتبهم في منطقةٍ أخرى من كراتشي لديهم هم أيضاً عشقٌ خاص لهذا الطبق الشهير. كل من يزور مشروعنا في مشار كولوني، سواء أكان من العاملين المحليين أو الدوليين يطلبون البرياني الذي يعدّه وسيم. وحتى حين يلتقي أحد الأعضاء السابقين في فريق العمل بأحد الأعضاء الحاليين فإن الحديث لا يخلو من ذكر البرياني والحبّ الأزلي الذي يكنّه لهذا الطبق من الأرز.
طعمٌ بمذاق الوطن
خلال مدة عملي هنا، كثيراً ما سمعت زملاء من العاملين الأجانب يقولون أنهم يخططون لأخذ دروسٍ في الطبخ على يد طبّاخنا ليتمكنوا من إعداد هذا الطبق الشهير بأنفسهم عند العودة إلى بلدانهم.
وكلما ذهبنا إلى البقاليات يشترون علباً من بهارات البرياني ليأخذونها معهم إلى بلدهم.
لا يمكن للمرء إلا أن يُغرَم بالمطبخ الباكستاني.
سألت أحد العاملين لدينا ما أكثر ما سيفتقده خلال ابتعاثه لمهمةٍ خارجية مدتها شهرين. توقعت أن يقول أنه سيفتقد عائلته ولكن جوابه أدهشني إذ قال "برياني وسيم".
طوال الوقت الذي أمضاه في بعثته الخارجية لم ينقطع التواصل بيننا، وكانت محادثاتنا عادةً تنتهي على هذا النحو...
هو: اشتقت للبرياني.
أنا: لم نعد نأكل البرياني، لقد منعوه.
هو: إذا لم يعد هناك برياني سأستقيل.
وينتهي الحديث بضحكةٍ مرحة. في اليوم الأول من عودته من الخارج طلب طبق البرياني المميز، وكان علينا أن نستسلم ونستجيب للطلب، وقد ملأه ذلك بسعادةٍ غامرة.
جمعة البرياني
في أيام الجُمَع وأثناء الاجتماع الصباحي يكون شعارنا دائماً أتمنى لك جمعة برياني سعيدة! وهو شعار يرسم البسمة على وجه الجميع.
مع اقتراب مهمتي من الانتهاء أفعل ما يفعله جميع الموظفين الأجانب الآخرون: شراء الكثير من بهارات البرياني (على الرغم من أنني لم أتلقَ أية دروسٍ في الطبخ) وأرجو ألا تنتهي مدة صلاحيتها وهي على الرف، كما حصل معي في عام 2015 عندما أخذت بعضاً منها معي حين عودتي إلى بلدي ولم أقم حتى بفتح تلك العلب.
في المرة القادمة التي تزور بها كراتشي أو مشار كولوني عليك أن تجرب هذا الطبق الشهير الذي يحبُّه الجميع، ولا تنسَ أن تتمنى لهم جمعة برياني سعيدة...
