لا نهاية في الأفق: صدمة النزوح المتكررة التي يتعرض لها أهل غزة

Displaced Palestinians in Rafah
تمرير
12 يوليو 2024
أصوات من الميدان
الدول ذات الصلة
الأراضي الفلسطينية المحتلة
شارك
طباعة:

منذ اندلاع الحرب المرعبة في غزة قُتِل ما لا يقلّ عن 38,000 فلسطيني أكثرُ من نصفِهم نساءٌ وأطفال كما جُرِح 87,000 آخرين. أما أولئك الذي نجوا من انفجارات القنابل والقصف والأعيرة النارية التي تنهال عليهم بلا هوادة، فحياتهم كانت مقابل تنقلهم المستمر من مكان إلى آخر حاملين ما تيسَّرَ لهم من حاجياتٍ أساسية. لكنّ شهادات أفراد طاقم أطباء بلا حدود والمرضى التي وردت على مرّ الأشهر التسعة الماضية تكشف بوضوح أنه لا مكان آمن في غزة.

 

وتكافح فرق أطباء بلا حدود العاملة في مختلف أنحاء قطاع غزة لتأمين الرعاية الأساسية التي من شأنها إنقاذ حياة أولئك الذين أصيبوا في الهجمات الإسرائيلية الشعواء، علماً أن أفراد الطاقم اضطروا هم أيضاً إلى الفرار للنجاة بحياتهم.

 

كان كامل* الذي يعمل ممرض طوارئ، وحيدر* الذي يعمل حارس أمن، من أفراد طاقم فريقنا المعني بعلاج مرضى الإصابات البليغة في مستشفى الشفاء الواقع في مدينة غزة أثناء أعمال القصف التي شهدتها المدينة خلال شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني. وإذا أضفنا عدد مرات نرح كامل إلى عدد مرات نزوح حيدر فإن العدد يصل إلى 18 لغاية اليوم.

 

 يقول كامل: "حين بدأت الحرب ظللنا في بيتنا لمدة أربعة أيام. كان أطفالي يستيقظون من نومهم وقتها وينتظرونني كي أعود وأحتضنهم وأهدئ من روعهم، وكنت أشتت انبتاههم وأقول لهم بأنها ألعاب نارية وليست قنابل. كان الوضع صعباً للغاية.

 

 

أُصيبَ سطحُ المبنى الذي يعيش فيه كامل بصاروخٍ أطلقته مسيّرة في اليوم الخامس من الحرب. فانتقل برفقة أطفاله إلى مكتب أطباء بلا حدود، ليعيش مع باقي أفراد الفريق، بمن فيهم حيدر الذي ظلّت زوجته وأطفاله في بيتهم الواقع في حيّ أكثر أماناً في شمال غزة.

 

واصل كامل وحيدر وغيرهم من أفراد طاقم أطباء بلا حدود عملهم اليومي في عيادة الحروق التابعة للمنظمة وفي مستشفى الشفاء الذي كان مكتظاً بمرضى يعانون من حروق شديدة وإصابات بشظايا.

 

 يشرح كامل قائلاً: "المرضى الذي رأيتهم خلال هذه الحرب يختلفون عن الحروب السابقة، فمعظمهم يعاني من جروح عميقة، كما فقد الكثير منهم أطرافهم أو أصيبوا بجروح ملتهبة. ولن أنسى رائحتها التي تذكرني برائحة الزيت الفاسد".

ويقول حيدر: "كنا نستقبل 30 إلى 40 مريضاً يومياً في العيادة، كما كنّا نعمل في مستشفى الشفاء ونعالج العشرات هناك. ظللنا على حالنا لمدة 40 يومياً إلى أن صارت الأوضاع خطيرة للغاية. فقد بدأ الجيش الإسرائيلي يتحرك صوب مستشفى الشفاء، باتجاهنا".

وبحلول أوائل نوفمبر/تشرين الثاني كان هناك ما لا يقل عن 75 شخصاً، بين أفراد طاقم أطباء بلا حدود وأسرهم، يحتمون في عيادة وسكن أطباء بلا حدود فيما كان القتال يستشري في الخارج. يشرح حيدر: "كانت الأوضاع سيئة حقاً، وكنا جميعاً خائفين. فإذا ما فتحنا الباب نرى نيراناً وأعيرة نارية. وكانوا يطلقون النار على الناس في الشارع". 

تدهورت سريعاً ظروف معيشة الفريق على مدار الأساسيع القليلة التالية. ويتابع حيدر قائلاً: "لم يكن لدينا ما يكفي من المياه لنغتسل بها أو نشربها خلال تلك الأسابيع. ولم يكن لدينا ما يكفينا من الطعام. ثم نفذت منا المياه تماماً بعد مرور أسبوعين".

كانت أوضاع فريقنا في مدينة غزة قد صارت لا تطاق في أوساط نوفمبر/تشرين الثاني، حيث كان القتال والقصف محيطاً بمستشفى الشفاء وعيادة وسكن أطباء بلا حدود، فتقرَّرَ إجلاءُ الجميع.

توجّهت قافلةٌ تابعة لأطباء بلا حدود باتجاه جنوب غزة في 18 نوفمبر/تشرين الثاني، علماً أن تنظيمها تمّ بمواقفة السلطات الإسرائيلية. لكن بعد منعها من عبور الحواجز الإسرائيلية الواقعة على الطريق إلى الجنوب، أُجبرت القافلة على العودة أدراجها.

وكان كامل وممرض أطباء بلا حدود علاء الشوا في إحدى سيارات القافلة برفقة أسرتيهما. وبينما هم في طريق العودة، على بعد حوالي 500 متر من عيادة أطباء بلا حدود، شاهدوا دبابات إسرائيلية خارج مستشفى الشفاء وقناصة على أسطح الأبنية المجاورة.

عندها فتحت القوات الإسرائيلية نيرانها على السيارة وأصيب علاء بطلقٍ ناري في رأسه. وقال كامل: "مرت الرصاصات بالقرب من جبهتي، واخترقت إحداها رأس علاء.

كان منحنياً ورأسه مائلاً باتجاه مقود السيارة، قريباً من ذراعي، فكان يصعب علي مواصلة القيادة. كانت الدماء في كل مكان في السيارة. حاولت جهدي أن أنعطف يميناً باتجاه مكتب أطباء بلا حدود وألحق بالسيارات الثلاثة الأولى التي تمكنت من الانعطاف قبل أن يبدأ إطلاق النار".

نجا كامل وباقي من كان في القافلة من إطلاق النار وتمكنوا من الوصول إلى عيادة أطباء بلا حدود الآمنة نسبياً. وبعد أن ركنوا السيارة حملوا علاء من مقعده إلى العيادة، لكنّهم لم ينجحوا في إنعاشه.

وقال حيدر: "حين رأيت بأنه فارق الحياة، دخلت في صدمة. لم أستطع أن أتمالك نفسي أو أن أفكر وانهرتُ على جانب الطريق". 

ظلّ فريق أطباء بلا حدود وأفراد أسرهم في العيادة والسكن خلال الأيام التالية. وحين كانوا هناك جاءت القوات الإسرائيلية إلى خارج العيادة ترافقها جرافة دفعت سيارات قافلة أطباء بلا حدود حتى تلاصقت ثم أحرقتها.

وبعد بعضة أيّام أخرى مرعبة شهدت إطلاق النار قرب عيادة وسكن أطباء بلا حدود، حدث وقف إطلاق نار مؤقت بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة دخل حيز التنفيذ في 24 نوفمبر/تشرين الثاني. فانسحبت القوات الإسرائيلية من المنطقة وتم ترتيب قافلة جديدة بالتنسيق مع السلطات الإسرائيلية التي سمحت لفريق أطباء بلا حدود وأفراد أسرهم بالتوجه جنوباً، حيث نجحوا هذه المرة.

وحين وصل فريق أطباء بلا حدود إلى جنوب غزّة مكثوا في ملجأ اللوتس التابع لأطباء بلا حدود في مدينة خان يونس وتابعوا عملهم. كان كامل يذهب يومياً إلى مستشفى غزة الأوروبي ليقدّم الرعاية لمرضى الإصابات البليغة الذين كانوا يصلون بأعداد كبيرة. فيما واصل حيدر قيادة السيارة ونقل الفرق الطبية إلى المستشفى الإندونيسي والاهتمام بالشؤون الأمنية.

لكن حيدر تلقى بعد أسبوع أنباءً مفجعة.

يقول حيدر: "بدأت وقتها معاناةٌ من نوعٍ جديد. إذ تلقيت خبر مقتل أختي وأطفالها في مدينة غزة. فدخلت في حالة اكتئاب. ثم قتلت ابنة أخي وأطفالها. ثم في الجنوب، قتل ابن أخي وزوجته وأطفالهم بعد أن اجتاحت الجرافة بيتهم. قتل عشرون فرداً من عائلتي ذلك الأسبوع. حزنت جدتي وسرعان ما فارقت الحياة هي الأخرى. اسودّت الدنيا في عيني حين حدث كلّ هذا، لكنني حاولت مواصلة عملي".

 

 

في الثامن من يناير، أي بعد حوالي شهرين على وصول كامل وحيدر إلى جنوب غزة، أصابت قذيفة دبابة إسرائيلية ملجأ اللوتس وقتلت ابنة أحد أفراد طاقم أطباء بلا حدود وعمرها خمس سنوات كما جرحت ثلاثة آخرين. وبعد الهجوم تمّ نقل أكثر من 125 من أفراد طاقم المنظمة وأسرهم إلى الكلية العربية للعلوم التطبيقية في رفح، والتي تبعد كيلومتراً عن الحدود المصرية، حيث مكثوا هناك لشهرين.

 

 ويقول حيدر: "كنا نعيش في خوفٍ دائمً، لكن لم يكن أمامنا خيارٌ آخر. كان هناك قصف وإطلاق نار. وقصفوا ذات مرة بناءً مجاوراً لنا حيث أصابت شظية مبنى الكلية. ظللنا على حالنا لمدة، إلى أن أعلنوا عن اجتياح رفح". 

 

منذ اجتياح رفح، لم يتوقف كامل وحيدر عن النزوح من مكان لآخر مثل غيرهم من آلاف الفلسطينين، نظراً لعمليات القصف والهجوم المتواصلة في مناطق جنوب ووسط القطاع.

 

 

يتنقّلُ حيدر من مكانٍ لآخر في منطقة المواصي، ويعيش في خيمة. يقول: "نزحت قسراً ثماني مرات، بمعدل مرّة شهرياً، وكان آخرها قبل يومين. لم أنم لمدة 24 ساعة لأننا كنا نتنقل من مكان لآخر بسبب الانفجارات. لا أكفّ عن التفكير بزوجتي وأطفالي في شمال غزة، وأعاني يومياً".

 

ظروف حياة حيدر وآلاف الفلسطينيين المرتحلين مأسواية.

 

فمنذ أن أجبروا على ترك رفح، تنقّل كامل وأطفاله أكثر من مرة في منطقة المواصي وبالقرب منها وفي مخيم البريج ومناطق وسط القطاع. يقيمون حالياً في البريج ويؤكد أنه لا مأمن في غزة من القصف.

 

"لا مكان آمن أبداً والظروف مريعة.  ليس لدينا ما يكفينا من غذاء وماء ودواء وملابس، ولا توجد أحذية. لا يوجد أي شيء. ويصعب عليّ جداً أن أرى أطفالي في هذه الحال".

لا يعرف كامل ماهيّة الصدمات النفسية التي تعرّض لها أطفاله جرّاء ما مروا به. ويقول: "هذه صدمة. حتى أمس، كان أطفال يلعبون مع أبناء أخي وسمعتهم يحكون لهم قصة علاء. ولا يكفون عن سرد قصة علاء. فلا يزالون مصدومين إلى اليوم".

تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن 90 بالمئة من أهل غزة نزحوا مرّة واحدة على الأقل منذ اندلاع الحرب بين إسرائيل وحماس، علماً أن معظمهم مجبرون على العيش في ظروف مروعة. لا يأمل حيدر سوى أن يلتم شمله بأسرته في مدينة غزة وبأن ينتهي حمام الدم.

 

 

 يقول حيدر: "لقد طفح الكيل. كفى قتلاً، كفى قصفاً، كفى نيراناً. يمكننا إعادة إعمار بيوتنا وإصلاح كل شيء، لكن لا نستطيع أن نعيد من فارقونا. فقد رحلوا بلا رجعة". 

* غيرنا الأسماء حفاظاً على الخصوصية.