تمرير

الآم حادة وهموم ثقيلة: أطباء بلا حدود تداوي الحروق في شمال العراق

29 مارس 2020
قصة
الدول ذات الصلة
العراق
شارك
طباعة:

ها قد مرت ثلاث سنوات على انقضاء حرب استعادة المدن العراقية من جماعة الدولة الإسلامية ولاتزال ندوب الحرب واضحة المعالم في ناحية القيارة جنوب مدينة الموصل في محافظة نينوى الشمالية. هناك، جسر مقصوف لم يعد يؤدي لأي مكان، حيطان مرشقة بثقوب خلّفها الرصاص، وسطوح مكسورة تتدلى فوق جثث منازل مقصوفة ما عادت تأوي أحداً غير الكلاب الشاردة.

تدير منظمة أطباء بلا حدود في القيارة المستشفى الوحيد المتخصص بمعالجة الحروق في نينوى، تلك المحافظة التي لا زالت تعاني وتترنح بعد صدمة حرب شرسة خلّفت الكثير من بنيتها التحتية، بما في ذلك المراكز الصحية، خرائب يبدو الكثير منها غير قابلة للترميم.

موسم الحروق

في داخل المستشفى، تتعالى صرخات طفلة صغيرة من إحدى وحدات علاج الحروق. فردوس ذات الخمس سنوات أخذت عائلتها على حين غرة حين كانت والدتها خارج الخيمة، لتمد يدها إلى غلاية ماء موضوعة على مدفأة زيتية وتقلبها على جسدها، ما أسفر عن حروق في ذراعها وبطنها وفخذيها.

ترافق فردوس جدتها طلحة أحمد بينما تنشغل والدتها في رعاية أخوتها في الخيمة التي باتت ملاذهم في أعقاب الحرب المدمرة التي قذفت أعداداً كبيرة من السكان إلى مخيمات النزوح المتداعية.

بعد عامين ونصف من سيطرة جماعة الدولة الإسلامية، استعاد الجيش العراقي سيطرته على بلدة القيارة في أغسطس/آب 2016. وفي ديسمبر/كانون الأول من ذلك العام، افتتحت منظمة أطباء بلا حدود مستشفاها هناك لتوفر الرعاية الصحية لثلاثمائة ألف شخص كانوا يعانون من غياب الخدمات الصحية في ظل التدمير الجزئي الذي تعرض له مستشفى القيارة العام.

وبمرور الوقت، وسّعت المنظمة من الخدمات الطبية التي يقدمها المستشفى، والتي تشمل رعاية حديثي الولادة وطب الأطفال، وخدمات الطوارئ والعناية المركزة، وكذلك الاستشارات النفسية. يستقبل المستشفى الآن المرضى من جميع أنحاء المحافظة بعد تعرضهم لحوادث منزلية أو إصابات من حوادث عنيفة ومحاولات الانتحار.

لكن في فصل الشتاء، أي موسم الحروق، تبدأ أعداد المرضى بالتدفق للمستشفى بعد تعرضهم لحروق منزلية أو نجاتهم من محاولات انتحار بحرق الجسد.

وبهذا الصدد، تقول الدكتورة آمنة رضوان المديرة الطبية في المستشفى الذي تديره المنظمة، بأن "أول وحدة حروق في المستشفى تم افتتاحها في أبريل/نيسان 2018 بطاقة استيعاب عشرة أسرّة". وتضيف الدكتورة آمنة بأن المستشفى رفع طاقته الاستيعابية إلى خمسة وعشرين سريراً "بسبب زيادة مرضى الحروق ونظراً لكون المستشفى هو الوحيد المتخصص في علاج الحروق في نينوى".

انخفضت درجات الحرارة هذا الشتاء إلى مستويات لم يشهدها السكان منذ سنوات. في بعض الأحيان، غطت الثلوج مساحات واسعة من البلاد لتزيد من معاناة الآلاف من النازحين الذين تحملوا وطأة البرد العظمى، وعادةً ما يلجأون لطرق تدفئة غير آمنة في الخيم أو المنازل المتداعية التي يقطنوها.

وبينما تكون المدفئات النفطية التي عادةً ما توضع فوقها أباريق الشاي أو الماء الساخن عنصراً أساسياً في البيوت العراقية في فصل الشتاء، تزيد المحاولات اليائسة لتدفئة المنازل والأجساد من احتمال حدوث إصابات بالحروق.

تقول طلحة، جدة فردوس، بأن الحياة "صعبة للغاية" في مخيم جدعة الذي يقع في أطراف ناحية القيارة، حيث تعيش عائلة فردوس في بيئة قاسية لا يجب على أي طفل أن يتحملها، لكن الآلاف من الأطفال العراقيين -مسلوبي الخيار- فتحوا أعينهم عليها.

بخلاف أقرانها، فردوس التي تضم دمية أرنب خضراء اللون إلى صدرها، لا تتفوه بأي كلمة. تقول الجدة طلحة بأن الطفلة "لم تنطق بأي كلمة أمام أي شخص سوى أفراد عائلتها منذ سنوات".

"إنها الصدمة" تضيف طلحة بحسرة، مشيرةً إلى القصف المدوي الذي هز مدينة الموصل، ودفع عائلة فردوس إلى الهرب، وخلّف عديدًا من القتلى والجرحى في المدينة المنكوبة.

التهويدة والصلاة

وفي الزاوية المقابلة لسرير فردوس، تهمس صديقة صادق تهويدة في أذن ابنها أنس عبد الرحمن. ابن السنتين تمكن هو الآخر من أن يقلب ابريق الماء الساخن من أعلى طباخ نفطي صغير ويسكبه على جسده. جاءت صديقة بابنها للمستشفى من بلدة تلعفر الواقعة غربي نينوى بين مدينة الموصل وقضاء سنجار.

ذراع أنس اليمنى وجسده العلوي ملفوف بالضمادات، فقد عانى جراء اصابته من حروقٍ شديدةٍ بسبع عشرة بالمائة من جسده الصغير. ممسكة يده اليسرى حيث ادخل انبوب الكانيولا الوريدية، تغني صديقة لابنها وتصلي لشفائه: "لم أذق طعم النوم منذ يوم إصابته. لكن إن شاء الله سيتحسن".

منذ نوفمبر/تشرين الثاني وحتى نهاية يناير/كانون الثاني، تلقى المستشفى مجموع ما لا يقل عن ثلاثة وثمانون حالة إصابة بالحروق. هذا وتقول الدكتورة آمنة أن المستشفى عادةً "يستقبل المرضى الذين يتعرضون لحروق بنسبة عشرة بالمائة فما فوق من أجسادهم، بالإضافة لأولئك الذين يعانون من حروق بنسبةٍ أقل ولكن في أماكن حساسة كالوجه، المفاصل والأعضاء التناسلية".

وتضيف الدكتورة آمنة بأن المرضى هناك يخضعون لعمليات تنظيف لجروح الحرق "وعمليات الترقيع، بينما يدخلون غرف العمليات عدة مراتٍ في الأسبوع وفقاً لمستوى الحرق لتغيير الضماد تحت تأثير المخدر" لتجنيبهم الآلام الحادة التي عادةً ما ترافق هذه العملية.

والعلاج الطبيعي أيضاً، على الرغم من كونه يسبب ألماً حاداً للمرضى، إلا أنه مكونٌ أساسي من إعادة تأهيل المريض خصوصاً لأولئك الذين يتعرضون لحروق عند المفاصل. يُمكّن العلاج الطبيعي مرضى الحروق من التغلب على الألم واستعادة الحركة تدريجياً، بالإضافة لكونه يجنبهم الآثار الجانبية للحروق كانكماش العضلات والمفاصل.

يقوم كادر المستشفى بمراقبة مرضى الحروق طوال فترة رقودهم، فهم عرضة للجفاف، وانخفاض درجة الحرارة والأهم من ذلك كله: العدوى، كونهم "فقدوا الجلد، طبقة الحماية الأولى ضد العدوى"، كما تعلل الدكتورة آمنة.

يتم تحويل أولئك المرضى المصابين بعدوى الجروح إلى أسرة العزل تحت رعايةٍ مكثفة من كادر المستشفى. هناك وحدتا عزل بسعة إجمالية تصل لتسع أسرة.

"دعوني أدخل"

في المستشفى، يعد الدعم النفسي أيضاً عنصراً أساسياً للشفاء، حيث يجلس الأطباء النفسيون والمرشدون مع بعض مرضى الحروق بشكلٍ يومي ليعالجوا اكتئابهم وإحباطهم، ويخففون من محنتهم عبر تعزيز ثقتهم بنفسهم ومساعدتهم على التأقلم والتكيف مع واقع جديد حيث لا يبدو مظهرهم كالسابق، ويجب عليهم البقاء في سرير المستشفى حتى يتماثلوا للشفاء.

لم يعد مصطفى أحمد يشعر بأي ألمٍ في جسده، فجراح ابن الثلاثة عشر ربيعاً قد التأمت وقريباً سيعود إلى مسقط رأسه مدينة الموصل القديمة. لكن الفتى النحيل الشاحب يجهش بالبكاء حين يتذكر النزهات مع أولاد عمومته هناك.

يقول مصطفى باكياً، "أتحدث معهم عبر الهاتف بين حينٍ وآخر لكن أحياناً لا أتمالك نفسي وأبدأ بالبكاء"، بينما تملأ الدموع عيني خالته الشابة التي تقف بجوار سريره وترافقه بالمستشفى في غياب والديه المتوفين.

في مدينة الموصل القديمة، ما تزال الجثث المتحللة المدفونة تحت الأنقاض تبعث رائحةً عفنة تدور على الأزقة القديمة. هناك، تقف كل زاوية كتذكار من فظائع الحرب ومآسيها العديدة. هي حربٌ ألقت بثقلها على مصطفى الذي زادت إصابته من العبء النفسي الذي يحمله.

عانى مصطفى من حروق في معظم جسده الملفوف بالضماد من رقبته حتى قدمه اليمنى. عندما يُسأل عن سبب إصابته، يقول بأن كل ما يتذكره هو إشعال نار الطباخ ثم التهام النيران لجسده ونقله بعدها إلى المستشفى.

قضى مصطفى أيامه الأولى في المستشفى بلا وعي يتنفس من اسطوانة الأكسجين. يتذكر نفسه حينها وهو يهلوس، "أحياناً أستيقظ في منتصف الليل متخيلاً بأنني أجلس في الخارج، فأقول لهم: دعوني أدخل"، ويضيف، "أنا بحال أفضل الآن".

يعتقد أعضاء فريق الصحة النفسية في المستشفى بأن بعض المرضى الذين يتلقون العلاج هناك قد نجوا من محاولات انتحار. ويشرحون بأن الانتحار يُنظر إليه كتذكرة هربٍ من صدمة الحرب التي عششت في ذاكرة الناس وحاكت خيوطها في نسيج حيواتهم اليومية: حياة عادة ما يشوبها الفقر والمستقبل المجهول.

وبهذا الصدد، تقول إيمان محمد مرشدة الصحة النفسية في المستشفى بأن بعض مرضى الحروق بحاجة ماسة للدعم النفسي: "هم عادةً ما يعانون من تحديات قبل وصولهم للمستشفى، وهي ذات التحديات التي قد تؤدي في نهاية الأمر لإصابتهم".

وخلصت إيمان إلى القول بأن "إعادة تأهيل مرضى الحروق لا تكتمل بدون الدعم النفسي".