تمرير

العراق: محمود ونبتة النعناع

20 سبتمبر 2017
تدوينة
الدول ذات الصلة
العراق
شارك
طباعة:

فيما يلي دوَّنت تريش عن رجل ألهم التزامُه تجاه عائلته فريق المنظمة للبقاء في الموصل التي مزقتها الحرب.

هذا العام، عندما زرعت بذور النعناع في تراب يوكون في كندا، كنت أفكر في الموصل.

قبل ثمانية عشر عاماً، عندما انتقلت إلى يوكون كان حلمي يتمحور حول العيش في البرية بطريقة مستدامة بدون كهرباء أو مياه تأتي عبر الأنابيب. فذهبت للعيش في الغابة داخل خيمة من الكتان، ثم نظفت مساحة من الأرض لأجعل منها حديقة كبيرة. حلمت بإنتاج الكثير من الخضروات، لكن موسم القطاف الأول جعلني أدرك الحقيقة الصعبة للزراعة في الشمال الكندي. وكانت أوجه المعاناة تتمثل في المناخ البارد الجاف، وقِصَر موسم القطاف، وخطر الصقيع الدائم وأيام الصيف الطويلة بشكل لا يصدق.

بعد سنوات قليلة من إنتاج كميات محدودة من الكرنب الأجعد والملفوف والجزر، خلعت قفازاتي الزراعية، فقد ناداني واجب العمل الإنساني وبدأت العمل مع منظمة أطباء بلا حدود كممرضة ثم أصبحت منسقة مشروع.

على مدى السنوات التسعة الماضية، عملت مع أطباء بلا حدود في إفريقيا والشرق الأوسط. أما عملي في يوكون فقد تقلَّصت مدته إلى بضعة أشهر في السنة –لا تكفي لأن أنجز شيئاً في الحديقة.

نادراً ما أفكر في زراعة الحدائق عندما أكون في مهمة مع أطباء بلا حدود. لكن في هذا العام وفي قلب الحرب القبيحة في الموصل، أعاد محمود ونبتة النعناع خاصته تلك الأجواء إلى حياتي.

المرة الأولى التي قابلت فيها محمود كانت في غرب الموصل بينما كنت أسير في الطريق. كانت الحرب تدور على بعد أقل من كيلومترين اثنين عنا، وكان صوت الانفجارات يصم الآذان، وأزيز الرصاص يبعث مشاعر الذعر في جهازك العصبي. هناك رأيت محمود يسير في الطريق وفي يده نبتة النعناع.

كنت وأنا وزملائي نبحث عن غرفة كبيرة لنجهزها كعيادة لتثبيت استقرار الإصابات البالغة. أردنا أن نكون قريبين من خط الجبهة، كي نتمكن من تثبيت استقرار إصابات الجرحى لنزيد من احتمالات بقائهم على قيد الحياة أثناء الرحلة التي سيقطعونها في سيارة الإسعاف إلى المستشفى. لكن كان من الصعب العثور على غرف كبيرة، فمعظم المباني الكبيرة كانت قد دمرت بفعل الحرب.

كان يأتي إلى العمل كل يوم ومعه نبتة النعناع

استوقفْنا محمود على جانب الطريق وسألناه مع إن كان يعرف أين يمكن أن نجد غرفة كبيرة. في الموصل عليك أن تكون حذراً في اختيار من تثق فيه – لكننا جميعنا شعرنا بانجذاب تجاه محمود ونبتة النعناع التي معه. أخذنا محمود في جولة على عدة مبانٍ يمكن أن تصلُح لتجهيز عيادتنا فيها. وإلى كل مبنىً زرناه كان يحمل معه تلك النبتة. بدا الأمر لطيفاً وغريباً في آن معاً.

وحالما اخترنا مكاناً لعيادتنا وظفنا محمود معنا كحارس إضافة إلى حراس آخرين. كان يأتي إلى العمل كل يوم ومعه نبتة النعناع.

طيلة العامين ونصف العام الماضيين، كان محمود وعائلته يعيشون في الموصل التي كانت تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية. خلال فترة سيطرة التنظيم كان محمود يدرِّس أبناءه في البيت كي لا يتأثروا بمناهج المدارس التي يديرها التنظيم. وعلَّم أبناءه كيف يزرعون النباتات وقامت ابنته الصغيرة بزراعة نبتة نعناع، وأحبت تلك النبتة.

وجود عائلته في المخيم يعني أنها ستكون في أمان ويتوفر لها الغذاء والماء والرعاية الصحية

في حرب الموصل تمكن الجيش العراقي ببطء من استعادة السيطرة على مناطق من تنظيم الدولة. وعندما سيطر الجيش العراقي على الشارع الذي يعيش فيه محمود أصبح بإمكانه أن يرسل أسرته إلى مخيم للنازحين جنوب الموصل. فوجود عائلته في المخيم يعني أنها ستكون في أمان ويتوفر لها الغذاء والماء والرعاية الصحية. أما هو فلم يذهب معهم ليبقى ويحرس البيت.

عندما أرسل أطفاله إلى مخيم النازحين طلبت منه ابنته الصغرى أن يعتني بنبتة النعناع التي زرعتها، فوعدها أن يبقيها معه طوال الوقت لحين عودتها. وبالفعل وفى بوعده.

لقد أسَرَتنا تلك النبتة وجعلتنا نبقى. في الأيام التي يحصل فيها القصف أو تشتد المعارك، أنظر خارج العيادة وأرى محمود جالساً بهدوء في محرسه والنبتة في حضنه. وعندما يأتي الجرحى إلى العيادة مع أطفالهم، كان غالباً ما يبقي الأطفال في الخارج معه ويعرِّفهم على نبتته.

طلب مني أن أزرع البذور في بلدي كي تحظى بحياة أفضل هناك.

كانت الوضع في الموصل خطيراً جداً على جميع من فيها. فالقصف والمتواصل وإطلاق النار يهدد حياة الجميع ومنازلهم. لم يتدمر منزل محمود حتى الآن، لكن المياه والكهرباء مقطوعة عنه فقد دمرت الحرب البنية التحتية. لذا، وفي نهاية كل يوم يملأ محمود قارورتين من الماء من العيادة، إحداهما ليشربها والثانية لجميع النباتات في بيته، فقد كان عنده نباتات أخرى غير نبتة النعناع التي لا تفارقه، فقد ترك أطفاله في البيت الكثير من النباتات الخضراء التي يسعى لأن يبقيها حية.

عندما كنت أزرع الحديقة في يوكون كانت نباتاتي العزيزة تحظى بكل اهتمامي. لقد عشت في الغابة ولم يكن عندي مياه تأتي عبر الأنابيب بل كنت أنقل الماء عدة كيلومترات لأسقيها. كنت أحلم دائماً بنظام للسقاية وطرق لحمايتها من الصقيع المبكر. في الموصل كانت التحديات المتزايدة التي يواجهها محمود من نمط مختلف كلياً، فقد كان يكافح لإبقائها على قيد الحياة ولإبقاء نفسه أيضاً.

أحببت العمل في الموصل لكن في النهاية حان الوقت لأعود إلى يوكون. وبينما كنت أتحضر للمغادرة أحضر لي محمود بعض بذور النعناع وطلب مني أن أزرع البذور في بلدي كي تحظى بحياة أفضل هناك.

عندما زرعت بذور النعناع في تربة يوكون الرملية الجافة في وقت سابق من هذا العام، كنت أفكر في الموصل. كنت أفكر في محمود وأطفاله وكل الذين أثرت الحرب فيهم.

وما كنت أراه في السابق تحدياً – أي نقل الماء إلى الحديقة وحماية نبتات النعناع من مناخ يوكون – أصبحت أراه اليوم حريةً وميزةً وفرصةً.

نُشِر هذا المقال بداية على موقع "ذا غلوب أند ميل".