تمرير

لم يعد بإمكاني حتى أن أنظر في عيون مرضانا

22 مارس 2020
تدوينة
الدول ذات الصلة
اليونان
شارك
طباعة:

بقلم آنا بانتيليا، مسؤولة الإعلام والتواصل من أثينا، اليونان.

قضيت حوالي أربعة أعوام في العمل الإغاثي قبل أن أدرك بأن المساعدات الإنسانية ليست سوى غيض من فيض بغياب الإرادة السياسية للتغيير.

كنت في عام 2015 طالبة دراسات عليا من اليونان ومصّورة صحفية طموحة، وقد كنت على استعداد لتقديم خبراتي ومهاراتي في محاولة لإيصال صوت أناس أُسكتوا قسراً أو أُهملوا... أناسٌ عانوا وفروا من وجه العنف والحرب والإرهاب.

لكنني لم أكن مستعدة أبداً لأرى هول الأزمة الإنسانية التي كانت قد صارت لتوها على أعتاب أوروبا... في بلدي.

اليأس

عملت خلال الأعوام الخمسة الماضية في العديد من مخيمات اللاجئين في اليونان، إلا أن الأوضاع على الجزر اليونانية قد خرجت اليوم عن نطاق السيطرة.

لقد أضحت هذه الجزر سجوناً مفتوحة لآلاف الناس الذين يعاقَبون على "جريمة" طلب الأمان.

يُحتجَز أكثر من 42,000 شخص في ظروف مهينة لأشهر وهم ينتظرون البَتَّ في طلبات لجوئهم. ولم تعد هذه الظروف تخفى على أحد بفضل آلاف التقارير والصورة التي تنشرتها وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية التي تزور مخيم موريا.

لكن ما من كلمات ولا صور قادرة على وصف مدى اليأس الذي يخيم على أولئك العالقين في موريا، فهم يحاولون البقاء على قيد الحياة ليس إلا، وغالباً ما يحرمون من الكهرباء، كما لم يعد يتوفر لديهم مؤخراً ما يكفي من مياه الشرب.

اتفاقية الاتحاد الأوروبي وتركيا

إن المعاناة التي تفوق التصور والتي يعيشها آلاف الناس في اليونان ليست إلا خياراً سياسياً ببساطة.

خيارٌ اتخذته سنة 2016 الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والبالغ عددها 28 دولة حين وقعت ما يعرف باتفاقية الاتحاد الأوروبي وتركيا.

وقد أضحت الجزر اليونانية منذ ذلك الحين سجوناً مفتوحةً لآلاف الناس الذين يعاقَبون على "جريمة" طلب الأمان.

أمهاتٌ في موريا

تحدّثتُ قبل بضعة أسابيع إلى أمهات يعاني أطفالُهُنّ من أمراض معقدة ومزمنة كالسكري والأذيات الدماغية وأمراض القلب، ولا خيار أمامهن سوى العيش في مخيم موريا الواقع على جزيرة ليسبوس اليونانية.

msf302092.jpg
شمسية برفقة ابنتها زهرة التي تعاني من التوحد وهما تعيشان في مخيم موريا الواقع على جزيرة ليسبوس

كانت الأم الأولى التي تحدثت إليها تدعى شمسية ولديها طفلة عمرها ستة أعوام تدعى زهرة ومصابة بالتوحد.

شمسية عمرها 27 عاماً وهي بحاجة ماسة إلى المساعدة دون شك. إذ لا يمكن لزهرة البقاء هادئة نتيجةً لمرضها، فهي دائمة الحركة والصراخ ولا تتوقف عن ضرب نفسها بالجدران المعدنية التي ترسم حدود مساحة تبلغ ثلاثة أمتار مربعة مخصصة لإقامة هذه الأسرة المكونة من ثلاثة أفراد.

قالت شمسية وقد اغرورقت عيناها بالدموع: "جيراني غاضبون منّي بسبب الضجة التي تحدثها زهرة، لكن ليس بيدنا حيلة، فسلوكها هذا نتيجة لإصابتها بالتوحد".

وأضافت: "غالباً ما تعاني من نوبات في الليل ولا أحد هنا ليساعدنا. لا أريد سوى العثور على مكان يسمح لزهرة باللعب مع أطفال آخرين وإيجاد طبيب متخصص كي يراها".

القيود المفروضة على الرعاية الصحية

لا يوجد أطباء متخصصون في التوحد على جزيرة ليسبوس، ولا يمكن لوضع زهرة أن يتحسن إلا بإيجاد طبيب أخصائي وإقامة مناسبة في مستشفى كبير على البرّ الرئيسي لليونان.

ولم تكتفِ الحكومة اليونانية بإهمال زهرة وما لا يقل عن 140 طفلاً موجودين على ليسبوس ويعانون من مشاكل طبية مزمنة ومعقدة، إلا أنها تعمدت كذلك منعهم من الحصول على الرعاية الصحية الأساسية واللقاحات والأدوية.

غول* هي الأخرى أمٌّ تكافح لحماية طفلها محمد ابن الثلاثة أعوام والذي يعاني من اضطراب دماغي.

msf302091.jpg
تقيم غول* وأسرتها في خيمة منصوبة على حقل زيتون دون كهرباء أو تدفئة

تقيم غول* وأسرتها في خيمة منصوبة على حقل زيتون دون كهرباء أو تدفئة

قالت غول: "أخبرني الطبيب بأني عليّ أن أبقيه نظيفاً طوال الوقت، لكننا نعيش في جزء صغير من خيمة وحين تمطر فإن الطين يعمّ المكان".

وأضافت: "ليس لدينا كهرباء ولا تدفئة، ولهذا فإنني أُحَمِّم محمد مرة فقط كل أسبوعين".

"موريا ليس جيدة"

رايدو* ليست أفضل حالاً، حيث نقلوها إلى شقة قريبة بعد مرور ثلاثة أشهر على إقامتها في موريا برفقة ابنها عبدول الذي يعاني من شلل تام وأطفالها الثلاثة الآخرين.

تتحدث رايدو بصوتٍ واضح وقوي، لكنها تجاهد كي تحبس دموعها.

msf302096.jpg
رايدو في لحظة فرح برفقة ابنها عبدول الذي يعاني من شلل تام

قالت رايدو وقد ارتعش صوتها: "أنا أمٌّ وحيدة وطفلي مريض وغير قادر على الوقوف أو الجلوس أو الحركة".

وأضافت: "يتعرض أطفالي الثلاثة الآخرون للإهمال لأن عليّ أن أقضي كامل وقتي مع طفلي المريض".

لا يستطيع عبدول أن يحرّك سوى عينيه وعضلات وجهه، كما أنه يعاني من تأخر معرفيّ، علاوة على أنه يتلعثم في الكلام، لكن لا مجال لإساءة فهمه حين يقول: "موريا ليس جيدة".

"يصعب عليّ النوم ليلاً"

يصعب عليّ التصديق بأن خمس سنوات قد مرت على ما يعرف بأزمة اللاجئين في أوروبا ولا يزال الاتحاد الأوروبي والحكومة اليونانية غير قادرين حتى على توفير الكهرباء والتدفئة وما يكفي من الماء لمثل هذه العائلات.

يصعب عليّ النوم ليلاً وأنا أعلم بأن هناك على بعد كيلومترات قليلة منّي أطفالاً مثل زهرة ومحمد غير قادرين على النوم لأنهم مرضى ويشعرون بالبرد والخوف.

يصعب عليّ أن أسمع بوجود أناس قد فرّوا من الحروب والتعذيب وعبروا البحار كي يصلوا إلى موريا ويُطعَنوا فيها حتى الموت.

يصعب عليّ النظر إلى الرسائل التي تصلني على واتساب وأنا أعلم بأن المرأة التي استقبلتني مرات عدة في خيمتها في موريا لن تبعث إليّ برسائل بعد الآن لأنها احترقت حتى الموت وهي تحاول تدفئة أسرتها.

يصعب عليّ أن أرى كلّ هذه المعاناة في بلدي... هنا في أوروبا التي يفترض أن ترتكز قيمها الأساسية على الحرية والديمقراطية والمساواة واحترام كرامة الإنسان وحقوقه.

لكن احترام هذه الحقوق في أوروبا قد بات اليوم عملية انتقائية.

يا للخجل

أشعر بصفتي مواطنة يونانية وأوروبية بخجلٍ عميق نتيجةً للألم الذي يتعمّد وطني والاتحاد الأوروبي إلحاقه بكلٍّ من شمسية وغول ورايدو والآلاف غيرهن من الأمهات اللواتي أتين إلى هنا أملاً في حياةٍ أفضل.

لم يعد بإمكاني حتى أن أنظر في عيون مرضانا وأنا أعلم بأننا قد خذلناهم.

* تم تغيير اسم المريضات لأسباب تتعلق بالخصوصية