الأيادي الشافية: شهادة طبيب سوداني

Umdawanban hospital
تمرير
14 فبراير 2024
قصة
الدول ذات الصلة
السودان
شارك
طباعة:

"باعتباري طبيباً فأنا هنا لأنقذ حياة الناس، لكن هناك سؤالاً لا يكف عن ملاحقتي، فكيف عساي أن أؤدي واجبي بغياب ما يكفي من الموارد والطواقم؟..."

 

بقلم د. محمد بشير، نائب المنسق الطبي في منظمة أطباء بلا حدود في السودان.

"لم أتخيل أبداً قبل 15 أبريل/نيسان العام الماضي بأنني سأجد نفسي في الخرطوم، عاصمة بلادنا، وبأنني سأعمل في منطقة قتال.

أنا طبيبٌ من السودان وأعمل مع منظمة أطباء بلا حدود منذ أعوام عديدة، لكنني لم أشهد قط على معاناة كالتي يعانيها أهل بلدي يومياً. فهذا نزاعٌ كارثي. إذ نزح أكثر من 7 ملايين شخص اليوم جراء هذا النزاع سواء داخل أو خارج البلاد. فرّ هؤلاء الناس من وجه العنف ووجدوا أنفسهم معدمين تقريباً في مخيماتٍ عشوائية.

ولم أسلم أنا وأهلي وأحبائي من النزاع مثل آخرين كثر.

الانهيار

تعاني السودان منذ زمن طويل من هشاشة نظامها الصحي، وقد أدى هذا النزاع القائم إلى انهياره. وأدعم منذ أشهر فرق أطباء بلا حدود في مستشفيين في ولاية الخرطوم وآخر في مخيم أم راكوبة في شرق البلاد. وحين يفكر الناس في الاحتياجات الطبية أثناء النزاعات فغالباً ما تتبادر إلى أذهانم صور أناسٍ جرحى أصيبوا بالقنابل والرصاص. لكنني رأيت أيضاً أعداداً متزايدة من حالات الطوارئ الطبية التي نتجت عن مضاعفات أمراض مزمنة غير مُعالَجة. فهناك أشخاص نجحوا في تدبير السكري والربو لسنوات ولا يقدرون اليوم على تأمين الأدوية التي لا بد منها لبقائهم على قيد الحياة.

ثمة أيضاً احتياجات هائلة على صعيد رعاية الأمومة، ولا سيما بين النساء الحوامل اللواتي تستدعي حالاتهن إجراء عمليات قيصرية أو في حالات ولادات الطوارئ. لذا فقد كان فريقنا في أم ضوّاً بان، أحد المستشفيين اللذين كنت أغطيهما، يقدم الدعم لفريق الأمومة، حيث ساعد في أكثرمن 1500 ولادة منذ يوليو/تموز. لكن خدمات الأمومة في مختلف أنحاء البلاد لم تعد تعمل بانتظام، ممّا يضع النساء الحوامل في مواجهة مضاعفات تهدد حياتهن دون سبيلٍ لتأمين الرعاية التوليدية في حالات الطوارئ. وحين تتوفر خدمات الرعاية الصحية تكون جودتها موضع شك.

لا بد من فعل المزيد

كوني مواطناً وطبيباً فإنني أشعر بقلق عميق عندما أفكر في الاحتياجات الصحية المتزايدة في وطني. فبعضها يعود إلى ما قبل النزاع، لكنها تفاقمت جميعها بفعله. فللسودان تاريخٌ مقلق من تفشي أمراض كالحصبة والتهاب السحايا. ويمكن الوقاية من هذه الأمراض شديدة العدوى باللقاحات، لكنها دون هذه اللقاحات قد تكون فتاكة ولا سيما بين الأطفال الصغار. كما يؤدي سوء التغذية إلى تعريض حياة الأطفال بالأخص للخطر، حيث يُضعف جهازهم المناعي.

وفي ظل انهيار نظام الرعاية الصحية وفرار مئات آلاف الناس هرباً من العنف وتواجدهم على الأغلب في مخيمات عشوائية مكتظة، لم يعد تنفيذ برامج تطعيم شاملة ودعم التغذية مجرد أمرٍ مهم بل بات شريان حياة من شأنه أن ينقذ حياتهم.

التصميم

لا تزال معظم المناطق التي تعمل فيها أطباء بلا حدود في السودان ساحات معارك نشطة، مما يجعل عملنا بالغ الصعوبة والخطورة، لكنه أيضاً يزيدنا تصميماً.

ولا يقتصر هذا التصميم على أطباء بلا حدود إنما يشمل المجتمعات التي تتعاون لتدعم بعضها بعضاً. ففي مخيم أم راكوبة في شرق البلاد على سبيل المثال، تقدم فرق أطباء بلا حدود الرعاية الطبية التي لا غنى عنها لآلاف الناس الذي يعيشون في المخيم والمناطق المحيطة به. ولم يكن واضحاً عند اندلاع النزاع ما إذا كان سيتسنى لنا مواصلة الدعم الطبي هناك، بيد أن تصميم الفريق لم يسمح بحدوث أي ثغرات في الخدمات. فقد نفذنا العام الماضي 40,000 استشارة طبية وساعدنا 507 نساء على وضع مواليدهن بأمان، حيث شملت هذه الخدمات نساء لاجئات وأخريات من المجتمعات المضيفة. لكن هذا التصميم كان مشتركاً، فقد رأيت بنفسي في أم راكوبة أهمية الدور الذي لعبه المتطوعون والمتطوعات والقابلات من أهالي المجتمع المحلي.

التصميم وحده لا يكفي...

إلا أن التصميم أحياناً لا يكفي. وكوني طبيباً فقد أقسمت قسماً مقدساً بأن أفعل كل ما في وسعي من أجل الناس الذين يحتاجون إلى الرعاية الطبية. وبوصفي نائباً للمنسق الطبي في منظمة أطباء بلا حدود، فإن مهامي لا تقتصر على علاج المرضى فرادى، إنما يتعين علي تنسيق الرعاية على نطاق واسع والحرص على إرسال الطواقم والإمدادات إلى حيث تكون الحاجة إليها على أشدها.

لكن كيف يسعني أن أفي بالعهد الذي قطعته ونحن في وضع تتعرض فيه الموارد والأيدي التي تقدم المساعدة للعرقلة وتواجه الخطر؟ هذا سؤالٌ يتردد صداه في ذهني ليل نهار.

إنها لمسألة حياةٍ أو موت أن يدرك جميع أطراف هذا النزاع الغرض الوحيد الذي تسعى إليه أطباء بلا حدود، ألا وهو تأمين الرعاية الطبية للناس الأكثر ضعفاً دون مقابل. ولا بد من تأمين وصول المرض إلى الطواقم وبالعكس، ويجب حمايتهم جميعاً، اليوم قبل غد. فحياة من نسعى إلى إنقاذهم تتوقف على هذا.

جزءٌ مني

عملي في وطني السودان ليس مجرد وظيفة، إنما جزءٌ من إنسانيتي. ويحتم علي واجبي الأخلاقي كما يحتم على زملائي في أطباء بلا حدود أن نفعل كل ما في وسعنا لتخفيف المعاناة في وجه النزاع.

ولا أزال متفانياً في سبيل هذه القضية".

 

  • يعمل د. محمد بشير مع منظمة أطباء بلا حدود منذ أعوام عديدة.  ويشرف على الأنشطة الطبية في مستشفيي أم ضوّاً بان وألبان جديد في ولاية الخرطوم اللذين تدعمها أطباء بلا حدود منذ يوليو/تموز وأغسطس/آب 2023. يقدم فريقنا العامل في مستشفى أم ضوّاً بان خدمات طب الأطفال ورعاية الأمومة، في حين يعتبر مستشفى ألبان جديد المستشفى العام الوحيد الذي يعمل في شرق النيل، وفيه تدعم أطباء بلا حدود غرفة الطوارئ وغرفة العمليات، حيث نفذ فريقنا هناك أكثر من 12,000 استشارة في قسم العيادات الخارجية  للطوارئ منذ أغسطس/آب.

 

  • يعمل د. بشير أيضاً مع فريق طبي يدعم مخيم أم راكوبة في ولاية القضارف، حيث نفذ الفريق أكثر من 40,000 استشارة في العيادات الخارجية خلال عام 2023 وحده. كما امتدت مهامه العام الماضي لتشمل التعاطي مع حالات طوارئ صحية كما حدث في سياق الاستجابة لتفشي الكوليرا. إذ قدمت الجهود التي بذلها في اثنين من هذه المستشفيات دعماً لا بد منه لحوالي 500 شخص أصيبوا بالكوليرا في عام 2023.

 

المزيد من المعلومات حول عمل أطباء بلا حدود في السودان

تعمل فرق أطباء بلا حدود في 11 ولاية: الخرطوم، الجزيرة، النيل الأبيض، النيل الأزرق، نهر النيل، القضارف، غرب دارفور، شمال دارفور، وسط دارفور، جنوب دارفور، بورتسودان. كما تؤمن فرق المنظمة المساعات للاجئين والعائدين على الطرف الآخر من الحدود السودانية، في كلٍّ من جنوب السودان وجمهورية إفريقيا الوسطى وتشاد.

تقدم فرق أطباء بلا حدود رعاية الطوارئ، وتنفذ العمليات الجراحية، وتدير عيادات متنقلة لصالح النازحين، وتعالج الأمراض المعدية وغير المعدية، وتؤمن خدمات رعاية الأمومة وطب الأطفال التي تشمل الولادات الآمنة، كما تؤمن خدمات المياه والصرف الصحي، وتتبرع بالأدوية والإمدادات الطبية للمرافق الصحية، وتدفع الحوافز لطواقم وزارة الصحة وتقدم لها التدريبات والدعم اللوجستي. تواصل منظمة أطباء بلا حدود أيضاً بعضاً من أنشطتها الطبية التي كانت قائمة قبل اندلاع النزاع.