أمضت سارة الفترة الماضية في كنشاسا في جمهورية الكونغو الديمقراطية حيث أطلقت هي والفريق المرافق لها حملةً جديدةً باستخدام التقنيات الرقمية لمكافحة الوصمة المرافقة للإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية ولزيادة الوعي حول معالجة هذا الفيروس...
في الصباح الباكر من أحد أيام تشرين الثاني (نوفمبر) سمعت طرقاً على الباب. لقد وصلوا. فرقةٌ راقصة، وطاقمُ إنتاج سينمائي وفنان غرافيتي، ونجما هيب هوب كونغوليان، وخمسة ناشطين في مجال مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية واحدةً منهم امرأة في المراحل الأخيرة من الحمل. كل ذلك التخطيط، وكل تلك التسجيلات وتجارب الأداء ستتوج هنا. كل ما كنا نرجوه هو ألا يهطل المطر وألا يفاجئنا الطفل بقدومه إلى الحياة في هذا التوقيت بالذات!
أنا أخصائية تواصلٍ رقمي وأعمل مع منظمة أطباء بلا حدود في جمهورية الكونغو الديمقراطية وما يحدث هنا كان قد خُطِّطَ له قبل عدة شهور، في وحدة مكافحة الإيدز التابعة لأطباء بلا حدود، بأسرِّتها الاثنين والأربعين التي أُفردت لها في مركز هوسبيتالييه كابيندا في كنشاسا، عاصمة جمهورية الكونغو الديمقراطية. تقدم المستشفى فحصاً ومعالجةً مجانيةً لمرضى الإيدز والذي هو عبارة عن متلازمة تظهر في المراحل المتأخرة من الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية إذا لم تتم السيطرة على الفيروس.
حين يتم تشخيص المرض في مراحل مبكرة وحين يلتزم المريض ببرنامج العلاج فإن فرص النجاة بالنسبة للمصابين بالفيروس تبدو جيدة حيث تعمل الأدوية المسماة بمضادات الفيروسات القهقرية على تخفيض نسبة الفيروس في الدم إلى مستويات متناهية في الانخفاض حتى لا تكادُ تُكتشف. ومع المراقبة والمتابعة المنتظمة يمكن للمصاب أن يعيش حياته بشكلٍ اعتيادي وسليم.
ولكن للأسف أكثر المصابين يأتون إلى المستشفى في وقتٍ متأخرٍ بعد الإصابة، وحين لا تعود مضادات الفيروسات تجدي نفعاً. حيث يأتي هؤلاء المصابين إلى المستشفى وهم في حالٍ يرثى لها من تمكّن المرض وقد بلغ وزن الواحد منهم أقل من 40 كيلو غراماً (88 رطلاً) بل إن وزن بعضهم لا يتعدى 30 كغ (حوالي 66 رطلاً). وكان ثلثا هؤلاء يموتون خلال 48 ساعة من وصولهم إلى المستشفى.
قرر فريق أطباء بلا حدود أن يتحرّى الأسباب وراء هذا التأخر في طلب العلاج. لِمَ لا تجرى الفحوصات وتشخيص الإصابة والبدء بالعلاج بوقتٍ مبكر؟
قام الفريق بإجراء دراسة أظهرت أن وصمة العار المرافقة للإصابة بهذا المرض، وعدم توفر المعلومات الدقيقة، والصعوبات الاقتصادية هي الأسباب الرئيسية الكامنة وراء هذا التأخر. كان هناك الكثير من الاعتقادات الخاطئة التي تدور حول هذا المرض، بما في ذلك الاعتقاد بأن الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية تعني حكماً بالإعدام، أو أن اللجوء إلى الدين هو الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها الشفاء من المرض ولذلك ليس على المريض أن يلتزم بتناول العلاج الذي يصفه الأطباء. كان هناك أيضاً الكثير من الشعور بالعار المرافق للإصابة بهذا المرض، والدخول في حالةٍ من الإنكار وإخفاء المصاب حقيقة إصابته عن المعارف أو رفضه لقبول التشخيص بدل السعي لطلب المساعدة.
في كنشاسا، وحَّدت منظمة أطباء بلا حدود جهودها مع "جونيس إسبوار" وهي مجموعة من الناشطين المحليين الذين يتعايشون مع إصابتهم بالفيروس. يعني الإسم الذي اختارته المجموعة لها "أمل الشباب" وبالاشتراك معهم قررنا أن ننفذ فكرة...
قررنا أن نتحدى الثقافة البصرية المحيطة بفيروس نقص المناعة البشرية. الناس هنا قد ملوا من الإعلانات حول ممارسة الجنس بشكلٍ آمن، وتناول الحبوب، والإعلانات حول الصحة العامة التي تجمع بين النص والصورة لإيصال رسالة متكاملة حول طرق انتقال الفيروس. حيث تُظهر الصور مرضى في حالةٍ شديدة السوء، فعلى مدى سنوات كان المرضى الذين تخلى عنهم ذووهم يُستغَلُّون لهذا الغرض مساهمين في نشر ثقافة الخوف المرافق لفيروس نقص المناعة البشرية والخلط بين فيروس نقص المناعة البشرية ومتلازمة نقص المناعة المكتسبة (الإيدز).
أردت أن أجد فكرةً مبتكرة لحملة تقوم بها منظمة أطباء بلا حدود لتغيير السلوك السائد هنا في جمهورية الكونغو الديمقراطية والتوصل إلى طرقٍ جديدة لنشر المعلومات تتبنى نظرةً جديدة نحو الإصابة بفيروس نقص المناعة البشرية حيث يتمكن الفنانون والنشطاء من تشكيل وتفسير عالم الصور التي يقدمونها وأن يستفيدوا من إمكانيات فن التصوير والثقافة البصرية كوسائط للتمكن من إحداث تغيير واسع النطاق على الصعيد الاجتماعي.
هل سينجح ذلك مع شبان المدن المتصلين في كنشاسا؟
يجد المرء الهيب-هوب في كل مكانٍ في كنشاسا. في النوادي، في الشوارع، على الراديو، وكرنة هاتف على الهواتف الجوالة. إذا كنا سنفعل ذلك، فإن الهوب هوب هو ما سيجعل الحملة تنجح، ولكن هذا مجالٌ ليست أطباء بلا حدود من المتخصصين فيه. لا بد إذاً من الحصول على مساعدة.
اتصلت بصديقٍ لي يعمل صحفياً وحدثته بشأن ليكسوس ليغال، أحد النجوم في مشهد الهيب هوب في كنشاسا وأحد من شاركوا في الدفاع عن المظلومية المرتبطة بفيروس نقص المناعة البشرية فيما سبق، وله عدد هائل من المتابعين على وسائل التواصل الاجتماعي، تماماً من النوعية التي نحاول الوصول إليها من فئات الشباب. كان ليكسوس هو الشخص المناسب تماماً.
أجاب صديقي: "دعني أرى ما يمكن عمله"
بعد ثلاثين دقيقة كنا في بيت ليكسوس.
عندما أطلعناه على خطتنا بدا ليكسوس متشككاً. كانت الفكرة التي اقترحناها تقوم على إنتاج فيديو موسيقي يصور أشخاصاً حقيقيين يرقصون ويغنون بشكلٍ علني وأمام الكاميرا أغانٍ حول كونهم مصابين بفيروس نقص المناعة البشرية.
"مستحيل" أجاب ليكسوس، "مستحيل أن تجد من يقبل القيام بذلك"
العار والخوف المحيطان بفيروس نقص المناعة البشرية شديدا التأثير في كنشاسا. ولكن ما لم يكن ليكسوس يعرفه هو أننا كنا قد مضينا بالفعل في تنفيذ الخطة. لقد قام ناشطو مجموعة "جونيس إسبوار" بمشاركة قصصهم مع المجتمعات المحلية والجماعات الدينية للتخفيف من وصمة العار المرافقة للمرض ولمساعدة الناس في كينيا على الوصول إلى العلاج الذي سينقذهم من الموت والذي هم بأمس الحاجة للوصول إليه. خمسة من هؤلاء النشطاء قد حسموا أمرهم فعلاً وقرروا أن يكونوا جزءاً من الحملة.
سيستا بيكي، إحدى نجمات الهيب هوب القليلات البارزات في كنشاسا، كانت قد سجلت مع ليكسوس من قبل وكانت خياراً بديهياً للمشروع. وبدأ الاثنان بالعمل في الاستديو مع النشطاء تواسان، فلاديس، جولي، جانسي وبوليه.
كانت المرة الأولى التي يغني بها النشطاء ضمن استوديو، وكان الجميع متحمسون وسعداء في نفس الوقت. أتذكر كيف أخذ جانسي يقول لي بأن هذا ما كان يحلم به منذ طفولته، أن يظهر على شاشة التلفاز وهو يغني. أما جولي فكانت في الشهر السابع من الحمل وكانت مصممة على أن يرى الناس من خلالها كيف أنه يمكن لامرأة مصابة بفيروس نقص المناعة البشرية أن تحظى بحملٍ سليم وأن تنجب أطفالاً كغيرها. أنت تشعر بأنهم فعلاً الأشخاص المناسبون لهذه المهمة.
كانت الأمور قد بدأت بالتجسُّد على أرض الواقع، ولكن كان لا يزال ينقصنا راقصون. وهنا تعرفنا على "سيدانس"، فرقة الرقص الرائعة التي كانت تسافر في أنحاء الكونغو لتوعية الناس حول فيروس نقص المناعة البشرية.
بعد كل التحضيرات، صورنا الفيديو خلال يومٍ واحد. لم تمطر يومها، وأنجبت "ماما" جولي طفلها بعد أربعة أيام فقط. استدعتني ليلاً وقالت لي أنا ذاهبة إلى المستشفى. كنت أحس ببعض القلق ولم أستطع إخفاء ذلك ولكنها في النهاية أرسلت لي صورة المولود وفي اليوم التالي ذهبت فوراً لزيارتها. كان صغيرها يبدو بأحسن حال.
منذ أن أطلقنا الفيديو حصد مشاهدات تنوف على 42 ألف مشاهدة على الفيسبوك وتم عرضه وإذاعته في راديو وتلفزيون كينشاسا. وظهر ليكسوس ليغال وسيستا بيكي في مقابلاتٍ تحدثوا فيها عن مشاركتهم بالحملة وخضعوا بأنفسهم للفحص المتعلق بتحري وجود فيروس نقص المناعة البشرية ثم نشروا النتائج على الفيسبوك تشجيعاً للآخرين على إجراء تلك الفحوص هم أيضاً.
على الرغم من أننا نأمل أن يغيِّر الفيديو بعض الخرافات المرتبطة بفيروس نقص المناعة البشرية، إلا أننا نعلم أن الناس بحاجة لنصائح عملية أيضاً. لذا فقد تضمنت الحملة أيضاً فقرةً للإجابة عن الأسئلة وإعلاناً عن أماكن تواجد العيادات في مدينتي غوما وكينشاسا حيث يمكن أن يخضع الناس للفحص ويتلقوا العلاج.
أعطينا الفرصة أيضاً للناس ليطرحوا أسئلتهم على الناشطين من خلال الفيسبوك أو أن يرسلوها لنا على شكل رسائل نصية بواسطة الواتساب، ولقد تفاعل الناس مع وسائل الاتصال هذه بطريقةٍ رائعة حتى أن الدكتورة جيزيل موتشينيا، التي تعمل في المستشفى كانت تسهر حتى ساعةً متأخرةً من الليل لتتمكن من الإجابة على الأسئلة التي تقلق الناس. كانت الأسئلة تتوالى حول أين يمكن للناس أن يتوجهوا ليتم فحصهم أو كيف يمكن أن يبدؤوا العلاج، ولكن كان هناك أيضاً الكثير من الأسئلة حول السلوكيات الجنسية وحول صحة النساء الحوامل اللواتي يحملن فيروس نقص المناعة البشرية.
هذا الأسبوع كان مليئاً بالعمل، لأنه بالإضافة إلى فيديو الموسيقا سنقيم أيضاً حفلاً موسيقياً مجانياً يوم السبت يحييه كلٌ من ليكسوس ليغال وسيستا بيكي. سيقام الحفل في أحد الأحياء المجاورة حيث تقدم أطباء بلا حدود الدعم لأحد المراكز الصحية، وسيتم خلال الحفل إجراء الفحص وإحالة من هم بحاجةٍ إلى العلاج. هناك فرق هيب هوب محلية مشاركة وسيقوم الفريق بالطبع بأداء أغنيةٍ الفيديو. عنوان الأغنية "انظر إليّ جيداً".
ذات مساء، وصلتني رسالة من أحد نشطاء جونيسيه إسبوار يقول فيها أنه خلال يومٍ واحد فقط أتى إليهم خمسة أشخاص قائلين بأنهم يودون الخضوع للفحص وذلك بعد أن سمعوا الأغنية في التلفزيون. سيكون علينا أن ننتظر لنرى ما إذا كانت الأغنية والحملة سيحدثان فرقاً في سلوكيات الناس على نطاقٍ أوسع، ولكن حتى الآن فإن ردود الفعل فعلاً إيجابية!