تمرير

بنغلاديش: جروح غير مرئية تحتاج إلى الشفاء

9 ديسمبر 2019
قصة
الدول ذات الصلة
بنغلاديش
شارك
طباعة:

ينطلق صوتٌ من مكبر الصوت في المسجد في جامتولي في وقتٍ غير متوقع، وبدلاً من أن يُسمَع صوت الأذان داعياً لصلاة الظهر يُسمع صوت الإمام وهو يدعو الناس إلى الانتباه إلى التوتر الذي يعايشونه في حياتهم اليومية وأن يطلبوا المساعدة في المركز القريب الذي تقدم فيه منظمة أطباء بلا حدود الرعاية الصحية الأولية.

يقول الإمام سيد عبد المجيد (تم تغيير الاسم بناءً على طلبه) "الناس هنا يثقون بي، وأنا أعتقد أن الجميع بحاجة إلى برامج دعم الصحة النفسية ليشعروا بالراحة والاطمئنان".

يكاد يكون جميع من يستمع إلى الإمام عبد المجيد هم من اللاجئين الروهينغا الذين فروا من أعمال العنف التي استهدفتهم في إقليم راخين في ميانمار في شهر أغسطس/آب 2017. قبل أن يلجأ هؤلاء الأشخاص إلى بنغلاديش للنجاة بحياتهم كان الكثيرون منهم ضحايا لأعمال عنفٍ مريعة أو شهوداً على مثل هذه الأعمال وكثيرٌ منهم فقد أحد أفراد أسرته وباتوا الآن يعيشون في المخيم في ملاجئ مؤقتة مكتظة بأعدادٍ أكبر من قدرتها على الاستيعاب دون أن يكون لديهم ما يكفي من الطعام أو من المياه الصالحة للشرب أو دورات المياه. حياتهم متوقفة ومستقبلهم غامض.

وتقول بوجا آيير الأخصائية النفسية العاملة في مركزي أطباء بلا حدود في كلٍ من جامتولي وحكيمبارا "نلحظ تزايداً مستمراً في عدد الحالات التي تأتينا والتي يعاني أصحابها من التوتر والاكتئاب" ففي حين أن الجروح الجسدية يمكن أن تكون قد برأت إلا أن مشاهد العنف التي ما تزال عالقةً في الذاكرة وفقدان الأقارب، إما بسبب الموت أو عن طريق التهجير إلى أماكن أخرى، كلها أمور ما زالت حية في الذاكرة.

مضى عامان، وازدادت الحاجة إلى الرعاية النفسية فإلى جانب الذكريات القاسية أُضيفت البطالة والقلق حول المستقبل والظروف المعيشية الصعبة وقلة أو انعدام الخدمات الأساسية كالتعليم، لتترك لدى هذه الفئة الضعيفة أصلاً ضرراً نفسياً على المدى البعيد.

فجوات في الرعاية الصحية النفسية

هناك حوالي 450 مريضاً لجؤوا لطلب الاستشارات النفسية في مرفقي جامتولي وحكيمبارا وحدهما. وقد لوحظ انتشار الذُهان المزمن – وهو اضطراب شديد يحتاج إلى علاجٍ نفساني - بنسبة عالية بين المرضى الذين يراجعون المرافق الطبية الخاصة بأطباء بلا حدود. حين أتى التوأمان عبد الحسيب وعبد الحليم البالغان من العمر 17 عاماً إلى المركز الصحي في جامتولي لأول مرة كانا يتصرفان كالأطفال وكانا بحالة انفصال عن الواقع. تضم الأعراض المميزة للذُهان تشوّش التفكير وتخيل رؤية أو سماع أشياء وأصوات غير موجودة، وتصرفات كتلك التي كانت تبدر عن التوأمين.

yd1qnuosyui0gu777f23ds6n5e7pr78s.jpg

العديد من مرضى أطباء بلا حدود يشتكون من رؤية الكوابيس ومن ومضات للذاكرة تعود بهم إلى الذكريات القديمة. ومن بين الأمراض الأخرى المنتشرة الميول العدوانية، والميول الانتحارية والتخيلات وإدمان المخدرات، حيث يقول الأخصائيون النفسيون العاملون في أطباء بلا حدود بأن هذه الأمراض ناتجةٌ عن الصدمات النفسية والحزن الذي لم يُنفَّسُ عنه. العديد من المرضى يعانون من الاضطراب ثنائي القطب وانفصام الشخصية أو صعوبات نفسية وذهنية أخرى مرتبطة بالصرع.

في بداية موجة تدفق اللاجئين في عام 2017، كان الدعم النفسي عنصراً أساسياً في مساعدة الهاربين على التعامل مع الصدمة النفسية الناتجة عن معاناة مستوياتٍ مرتفعة من العنف. أما اليوم فالرعاية النفسية بالإضافة إلى الدعم النفسي الاجتماعي هي عناصر أساسية لتخفيف حالات المعاناة النفسية السائدة في المخيم. هناك نقصٌ لم يتم تداركه في توفير الخدمات، فالحاجة المتزايدة إلى خدمات الصحة النفسية الشاملة التي تُقدم على المدى الطويل تحتاج إلى المزيد من الموارد والكوادر لتقييم مدى سوء الوضع فعلياً فيما يتعلق بالصحة النفسية. الاستجابة الصحية تحتاج إلى أخصائيين نفسيين مؤهلين قادرين على تشخيص الحالات ووصف الأدوية المناسبة لمعالجة الاضطرابات النفسية الحادة.

هناك فجوة أخرى في الخدمات تتمثل في الأطفال الذين يعانون من إعاقات أو تأخر في النمو أو إعاقات عصبية أو صعوبات في التعلم.

تقول آير "لدينا مرضى يعانون من الشلل الدماغي وآخرون يعانون من نقص الانتباه وفرط النشاط أو من اضطرابات طيف التوحد، وهؤلاء لا يستطيعون الذهاب إلى المدارس أو مراكز التعليم العادية إذ يعانون فيها من التنمر". وتضيف قائلةً عن هذه الفئة "إنهم يعانون بصمت".

تهدف المرافق الطبية التابعة لأطباء بلا حدود في أنحاء مقاطعة كوكس بازار، والتي تبلغ مساحتها 2492 كيلومتراً مربعاً، إلى دعم النظام الصحي المحلي لتلبية الاحتياجات المتزايدة للمرضى. وعلى الرغم من أن أغلب مرضى أطباء بلا حدود هم من الروهينغا، إلا أن كافة خدمات الصحة النفسية متاحة أيضاً للبنغاليين.

معاناة الوصمة الاجتماعية

ما زالت الأمراض النفسية لا تحظى بالفهم الكافي في كلا المجتمعين. معظم المرضى الذين يراجعون المنشآت الطبية التابعة لأطباء بلا حدود تظهر لديهم بوضوح علامات الضغط النفسي والتوتر والصدمة وكثيرون آخرون يعانون من الاكتئاب واضطراب التوتر ما بعد الصدمة وانفصام الشخصية والذُهان كل ذلك دون أن تلاحظ مجتمعاتهم تلك الأعراض أو تلقي بالاً للأمر.

المرضى الذين تظهر لديهم أعراض الاضطراب النفسي بشكلٍ واضح، يقال بأنهم ممسوسون من الجنّ أو أنهم تحت تأثير السحر الأسود. جماعة الروهينغا مستثناة من الرعاية الصحية منذ عقود في ميانمار وهم يلجؤون في غالب الأحيان إلى المعالجين الشعبيين إما بسبب قربهم من ثقافتهم ومعتقداتهم أو لعدم ثقتهم بمقدمي الخدمات الصحية في المخيم.

تقول تانيا مرشد إحدى أفراد طاقم أطباء بلا حدود، وهي معالجة نفسية تعمل في المجال الطبي الاجتماعي "العديد من المرضى لا يتم تحويلهم إلى مستشارين نفسيين إلا عندما يأتون إلى مرافقنا الصحية طلباً للعلاج من أمراض أخرى عضوية". مرشد مسؤولة عن الفعاليات التي تهدف إلى نشر الوعي حول الصحة النفسية بين التجمعات السكانية في مخيمي كوتوبالونغ وبالوخالي.

تقول مرشد أن "المرضى النفسيين الذين تصدر عنهم تصرفات عدوانية كثيراً ما يتم تقييدهم بالسلاسل بسبب الخوف والاعتقادات الخاطئة السائدة حول الأمراض النفسية. ويؤدي إهمال الحاجات الأساسية، كالغذاء والنظافة، وكذلك الانعزال إلى تدهور حالة المريض ووضعه النفسي." وتقول مرشد أيضاً: "أما الذين لا تظهر عليهم أعراض واضحة فيتحملون في أنفسهم".

الفئة الأضعف، وفقاً لمرشد، هم أولئك الذين تعرضوا للعنف الجنسي إما في ميانمار أو في مخيمات اللاجئين في كوكس بازار. بالنسبة لأطباء بلا حدود فإن العنف الجنسي يُعتبر حالةً ذات أولوية تتطلب اهتماماً فورياً فالوصمة المحيطة بالموضوع التي تسود عادةً في المجتمعات الذكورية تُفاقِم الأضرار النفسية على المدى البعيد. تقول مرشد بأن الأطفال الذين يولدون نتيجة الاغتصاب كثيراً ما يتم التخلي عنهم ووصمهم بالعار من قبل مجتمعاتهم.

وفقاً لمرشد فإنه "يجب الانتباه إلى النتائج الكارثية التي تتركها هذه الأزمة على الناس من مختلف الأعمار"

بناء الثقة

عزلة المرضى وشعورهم بالوحدة يشكلان تحدياً إضافياً لفرق الصحة النفسية في أطباء بلا حدود، فعدم قدرتهم على التواصل مع عائلاتهم في كوكس بازار أو في ميانمار بسبب القيود على التنقل وعدم توفر وسائل الاتصال يمكن أن تزيد من سوء حالتهم وأوضاعهم.

تعالج الفرق الطبية العاملة في أطباء بلا حدود هذا الشعور بالوصمة والعزلة الذي يشعر به المرضى عن طريق بناء الثقة والتعاضد من خلال فعاليات التثقيف ونشر الوعي حول الصحة النفسية. ويعد اختصاصيو الصحة النفسية المجتمعية الذين ينتمون إلى نفس الثقافة ونفس الدين الذي ينتمي إليه السكان عنصراً أساسياً في بناء الثقة والوعي حول الصحة النفسية بين المرضى والأشخاص الذين يقدمون الرعاية للمرضى وقادة المجتمع.

كثيراً ما يتخلى المرضى وعائلاتهم عن العلاج النفسي لأن الاستشارات والأدوية النفسية تستغرق وقتاً طويلاً قبل أن تظهر آثار العلاج. ويساعد اختصاصيو الصحة النفسية المجتمعية في إقناع المرضى بالاستمرار في تلقي العلاج وحضور جلسات المعالجة النفسية. وتعمل فرق الصحة النفسية، المؤلفة من اختصاصيي الصحة النفسية المجتمعية والمستشارين النفسيين ومشرفي العلاج النفسي والمعالجين النفسيين على أن تكون هناك خطة خاصة لعلاج كل مريض من المرضى.

ينطلق الصوت مجدداً من مكبرات الصوت في مسجد جامتولي حيث يكرر الإمام عبد المجيد رسالته متفائلاً بأن الناس سيتبعون نصيحته. المرضى ومن يعتنون بالمرضى وقادة المجتمع والفرق الطبية التابعة لأطباء بلا حدود كل هؤلاء يعملون معاً لئلا تصبح الصدمة والحرمان السمتان المميزتان لحياة أولئك الذين يسعون للحصول على العلاج النفسي في كوكس بازار. ولكن هل يوجد أمل؟

تقول آير "معظم مرضاي الصغار لديهم رعب ممن يرتدون الزي العسكري إذ أنهم شاهدوا الفظائع ترتكب إما من قبل الجيش أو الشرطة في ميانمار . وحين يتحسن هؤلاء الأطفال يصبحون قادرين على إعادة سرد ما عاشوه دون أن يرتجفوا أو أن يتبولوا في ملابسهم. ألا يُعَدّ ذلك باعثاً على الأمل؟"

تقدم منظمة أطباء بلا حدود رعاية الصحة النفسية المتكاملة بما في ذلك الرعاية الطبية النفسية في جميع مرافقنا في كوكس بازار. وبين شهري أغسطس (آب) 2017 و سبتمبر (أيلول) 2019 قدمنا 38904 استشارات فردية و 55170 استشارة جماعية. وبالإضافة إلى ذلك قمنا بالتعاون مع وزارة الصحة ورعاية الأسرة بتأسيس مركز لتقديم خدمات رعاية الصحة النفسية في مجمع أُخيا أوبازيلا الصحي منذ منتصف عام 2017. هذا المركز هو من أوائل المراكز الصحية التابعة لوزارة الصحة ورعاية الأسرة التي تقام فيها أنشطة لامركزية للصحة النفسية ضمن مجمّعٍ صحي. هنا يقوم المستشارون التابعون لأطباء بلا حدود بمعاينة المرضى وتصنيفهم حسب وضعهم النفسي وتقديم جلسات استشارة فردية وأخرى جماعية وتحويل الحالات الحادة إلى مستشفانا الميداني في كوتوبالونغ.