فنزويلا: هذا ليس وقت الصور

Mental health in Venezuela
8 سبتمبر 2021
الدول ذات الصلة
جمهورية فنزويلا البوليفارية
شارك
طباعة:

شكَّلت الصحة النفسية للمرضى وأسرهم وعمال الصحة على الخطوط الأمامية جزءاً أساسياً من المشاريع ذات الصلة بكوفيد-19 التي تديرها أطباء بلا حدود حول العالم. وبالنسبة ليوتيبل مورينو، مسؤولة الاتصال لدى أطباء بلا حدود في فنزويلا فقد أصبح التعامل مع الألم الذي سببه الوباء أمراً شخصياً عندما دخل عمها إلى وحدة رعاية كوفيد-19 التابعة لأطباء بلا حدود في كراكاس.

"يسبب كوفيد-19 الاضطراب بين أفراد الطاقم الصحي والخوف والقلق لدى أقارب المرضى، والجَزَع والألم لدى المرضى وأحياناً الموت.

لقد عملتُ في أطباء بلا حدود منذ بداية عام 2019 وقد شاهدت عن قرب عمل الأطباء والممرضين وكذلك فرق النظافة الصحية واللوجستيات والعمل الاجتماعي والصحة النفسية، خلال رعايتهم لمرضى كوفيد-19. لقد رأيت كيف يعمل كل عنصر من عناصر المنظومة، وذلك بفضل تفاني كل عضو في الفريق. وأجريت مقابلات مع المرضى الذين تعافوا، وأنا ممتنة للفرق على الرعاية التي تلقوها، وبكيت بحرارة لرؤيتهم وهم يضيفون بصمات أيديهم إلى جدار المستشفى كعلامة للنصر عند خروجهم من المستشفى. 

التقيت أيضاً بمرضى يموتون، ورأيت كيف تؤدي جوانب هذه الجائحة إلى تعقيد ردود فعل الناس تجاه مصيبة الفقد - بما في ذلك استحالة الاتصال الجسدي، واستحالة متابعة تطور المرض عن كثب، ومرافقة المريض في أوقات عدم الراحة والأرق والمضاعفات أو الخوف واستحالة الحصول على فرصة الحزن على المريض وتوديعه.

لقد وجدت أطباء بلا حدود سبلاً للالتفاف على جميع هذه الصعوبات. يعتني فريق أطباء بلا حدود بمرضى كوفيد-19 من خلال زيارات المتابعة اليومية والاتصالات الهاتفية والرسائل الصوتية والمصورة، مع إبقاء أقارب المريض على اطّلاع عن تطور حالته أو احتمال تدهورها. وبهذه الطريقة يتم الحفاظ على الروابط بين المرضى والطاقم وأفراد أسر المرضى، ويسهم ذلك في تعزيز شعور المرضى بمعرفتهم بوضعهم كما يساعد في التعامل مع الشعور بالذنب الذي قد يشعر به أفراد الأسرة أنهم تركوا أحباءهم وحدهم في المستشفى. 

هذه المرة كان دوري لأشعر بذات الألم. دخل عمي ميغيل إلى وحدة رعاية كوفيد-19 التي تديرها أطباء بلا حدود إذ كان متوعكاً بشدة. ومنذ اليوم الأول اتصل الفريق بي لإبلاغي بوضعه. تحدثوا معنا بكل وضوح وأعطونا جميع المعلومات التي نحتاجها. العلم بالأمور يريح البال ويخفف الخوف والاضطراب والألم. وأتيح لنا أكثر من مرة أن نرسل رسائل صوتية نشجع فيها عمي ميغيل، وبذلك كانت أسرته على اتصال به. كان فريق الصحة النفسية يخبرنا عن الأوقات التي سيكونون فيها معه ويحثوننا على إرسال الرسائل الصوتية كي نشد من عزيمته. كما كانوا يراقبون الصحة النفسية لأسرتنا من خلال التواصل مع كل من عاشوا معه. 

مرت الأيام وساء وضع ميغيل. أُدخل إلى الرعاية المركزة وفي أحد الأيام أبلغونا الخبر الذي لا يحب أحد سماعه: لفظ ميغيل أنفاسه. 

بعد خبر موته، كان الوقت يمر ببطء. لقد فعل الخوف فعله، فالبعد الجسدي الذي يفصل العائلة عن بعضها البعض الآخر، واستحالة اللقاء والعناق والتعزية، كل ذلك زاد من قسوة الأمر. في خضم الجائحة، وأنت تعرف أن قريباً لك مات، ولا تستطيع أن تكون معه، ولا تعرف بالضبط ما الذي عليك فعله، يجعلك ذلك تغوص في وادٍ من الذهول. وكما في البداية كانت المعلومات التي نتلقاها خير معين. 

يدعم فريق الصحة النفسية في أطباء بلا حدود الأسر خلال عملية رعاية مرضى كوفيد-19 وتهيئتهم لاحتمالية موت المريض. وتوصي منظمة الصحة العالمية عند موت مريض أن يُسمح للأقارب برؤية الجثمان بدون لمسه مع الحفاظ على مسافة واتخاذ جميع الاحتياطات للوقاية من العدوى. وفي مستشفى فارغاس دي كراكاس أنشأ فريق الصحة النفسية لأطباء بلا حدود مساحةً للأقارب لإلقاء الوداع الأخير بعد وفاة المريض، مع الحفاظ على تدابير السلامة الحيوية، وهي منطقة مفصولة بجدار زجاجي ويقدم فيها طاقم الصحة النفسية من أطباء بلا حدود الدعم، ليتمكن أفراد الأسر من توديع ذويهم في مكان محترم. 

قبل بضعة أسابيع من وفاة عمي، حاولت أنا وأحد المصورين أن نوثق هذا المكان والإجراءات التي تلي وفاة مريض بكوفيد-19. كنت مدركة لطبيعة الوضع الحساسة ولم يكن لدي نية اقتحام خصوصية هذه اللحظة في سبيل الحصول على صورة أو قصة. انتهى بنا الأمر بأن لم نلتقط أية صور إذ لم تُتح الفرصة لذلك. كنت ممتنة لأفراد الطاقم على أدائهم لعملهم واحترامهم قرار أفراد الأسر أن لا تُلتقط لهم صور. وفي نهاية زيارتنا طلب مني المصور أن أذهب خلف الساتر الزجاجي حيث يجلس أقارب المرضى والتقط لي صورة هناك. كنت ممتنة في قلبي أننا لم نحقق هدفنا، ولم يخطر ببالي ما سأمرُّ به بعدها بأيام.

في الصباح التالي لوفاة ميغيل، كنت مع أبي وابن عمي ميغيل أنخيل وصديقته جالسين قبالة فريق الصحة النفسية في أطباء بلا حدود. أخبرنا أفراد الفريق، وأيديهم مبتلة بالماء بعد أن غسلوها وكماماتهم مبللة بالدموع، كيف كانت لحظاته الأخيرة وما الذي فعله الفريق الطبي والتمريضي للمساعدة، كما قالوا لنا كلمات مشجِّعة واستمعوا لنا. حكوا لنا عن الجوانب العاطفية التي ستمر بها الأسرة والدعم النفسي المتوفر والخطوات القانونية اللازمة وأعطونا فرصة إلقاء الوداع. 

أولى مراحل الفقد مرحلة الإنكار؛ وتعني عدم تصديق خبر الوفاة. المرحلة الثانية هي الغضب؛ الغضب والإحباط؛ تُلقي باللوم على نظام الرعاية الصحية، أو على الأطباء أو تلوم القدر. المرحلة الثالثة هي التفاوض؛ وذلك عندما تبدأ عملية القبول، بالرغم استمرار محاولات عدم القبول، إذ يتجلى القبول من خلال طلب المزيد من الوقت رغبةً بفرصة للقيام بالأمور على نحو أفضل أو تصحيحها. في هذه المرحلة يمكن للقيام بالأعراف المتبعة أن يخفف صدمة الفقدان مثل إعداد طعامه المفضل وتوزيعه أو حضور فعالية دينية أو القيام بأي نشاط يتفق مع قيم الشخص ومعتقداته. 

المرحلة الرابعة من الفقد هي الحزن. يجيش الصدر بالحنين وتشعر أن الحياة لم يعد لها معنى ومن الصعب العيش بدون الفقيد. تشعر بحالة الفقد وتعيشها وتقر بها. المرحلة الخامسة هي القبول، عندما تُقر بالفقدان أنه أمر واقع. 

عدت إلى المكان لإلقاء الوداع الأخير ممسكة بيد والدي واتجهنا إلى حيث يذهب أقارب المتوفى، بدون كاميرا، لا نسعى إلى التقاط صورة أو تدوين قصة. لم أستطع التوقف عن التفكير في ذلك اليوم الذي لم أحقق فيه هدفي، وتلك اللحظة التي فهمت فيها أن الوقت ليس وقت الصور . فتوقير تلك اللحظة وخصوصية الألم يناسبها الكلمات فقط. 

دخلنا وقلنا كلمة الوداع. ومع حزني الشديد على وفاة عمي ميغيل أود أن أشكر كل زميل لي في أطباء بلا حدود على المعاملة المحترمة والإنسانية والمهنية التي يقدمونها لكل مريض بكوفيد-19 وأقاربه الذين يمرون بوقت عصيب. أود أن أخبر باقي أفراد أسرتي أننا جئنا وقلنا وداعاً؛ أدَّينا ما علينا، واستطعنا أخيراً وقف دائرة الألم".